ليبيا.. إصلاح قوانين الانتخاب بين تعقيدات السلاح والتدخل الخارجي

منذ ٤ شهور ١٨

أنهت اللجنة الاستشارية المشكلة من البعثة الأممية في ليبيا ضمن مبادرتها التي أعلنتها في ديسمبر/كانون الأول الماضي، اجتماعها الثاني الخميس الماضي، وسط ترقب لنتائج أعمالها التي لم يُعلَن زمنُ انتهائها. وعقب انتهاء الاجتماع الثاني قالت البعثة إن اللجنة ناقشت "العديد من المقترحات الممكنة لمعالجتها" بما يتماشى مع مهامها المحددة في "التركيز على الجوانب الخلافية" في القوانين الانتخابية، لكنها أضافت أن أعضاء اللجنة قرروا "اتباع نهج شامل" لحل التحديات في هذه الجوانب لإدراكهم "ترابط العديد من هذه القضايا بعضها مع بعض" ما أثار أسئلة حول إمكانية خروج اللجنة عن مهامها في إجراء إصلاحات فنية على القوانين.

ويحيل قرار اللجنة اعتماد نهج شامل لتفكيك عقد القوانين الانتخابية إلى بحثها في الأسباب الجذرية التي شكلت تلك العقد المترابطة بعضها ببعض، ومن ثم انجرافها نحو ساحة الاستقطاب السياسي. وأبرز النقاط في القوانين الانتخابية التي واجهت اعتراضاً وجدلاً بين الأطراف السياسية في ليبيا: ترشح العسكريين، وحملة الجنسيات الأجنبية، وتشكيل حكومة جديدة للإشراف على الانتخابات، وهي نقاط ليست إجرائية وتقنية فحسب، بل نبعت من واقع صراع طويل وعميق على السلطة.

وبرز الخلاف الأول والثاني ضمن القوانين الانتخابية التي أصدرها مجلس النواب عند الاستعداد لإجراء الانتخابات في ليبيا نهاية العام 2021، إذ لم تتضح فيه شروط ترشحهم، وقامت لجنة 6+6 المشكلة من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة عقب فشل إجراء الانتخابات بإجراء تعديلات عليها بأن سمحت للعسكريين بالترشح شرط الاستقالة من مناصبهم، ولحملة الجنسيات الأجنبية الانخراط في الجولة الأولى للانتخابات لكن اشترطت عليهم تقديم تنازل عن الجنسية الأجنبية قبل الدخول إلى الجولة الثانية. ورغم مصادقة مجلس النواب في أكتوبر/تشرين الأول 2023 على قوانين لجنة 6+6 استمر اعتراض المجلس الأعلى للدولة حول الشروط ذاتها، إذ طالب باستقالة نهائية للعسكريين من مناصبهم، وبإقرارٍ بالتنازل عن الجنسية الأجنبية قبل إجراء أي جولات انتخابية.

وفي الأثناء، تفجر الخلاف الثالث حول تشكيل حكومة واحدة للإشراف على الانتخابات، فبات جوهر الخلاف في القوانين، إذ رفض رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة التنحي عن السلطة إلا لسلطة منتخبة، وسط إصرار مجلس النواب على إنفاذ هذا الشرط وتشدد في أن الانتخابات لا يمكن أن تجري وسط انقسام حكومي.

ويقف وراء تعقد هذه الشروط ارتباطها بشخصيات محددة، فيما يرتبط شرطَا منع العسكريين وحملة الجنسيات الأجنبية بمنع اللواء المتقاعد خليفة حفتر، العسكري والحامل للجنسية الأميركية، من الترشح، ويستهدف تشكيل حكومة جديدة للإشراف على الانتخابات إقصاء الدبيبة. وتدرك كلتا الشخصيتين أهمية الظهير المسلح الذي يدعمها، فحفتر شكل قاعدة وجوده بوصفه شخصية فاعلة في معادلة الصراع الليبي على قواته التي شرعنها باسم "الجيش الوطني" ونجح في التمدد من خلالها إلى أغلب أجزاء البلاد، والدبيبة يرتبط بقاؤه في المشهد بتحالفه مع المليشيات التي تستمد قوتها من وجودها في طرابلس حيث المؤسسات الاقتصادية والمالية الأهم في البلاد، وهو ما يهدف إليه مجلس النواب بإنهاء سيطرته على مؤسسات الدولة التي هيمن عليها منذ توليه السلطة عام 2021.

ووسط هذه الصراعات، أطلقت البعثة الأممية في ليبيا منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي، مبادرتها الجديدة التي بدأت العمل فيها بتشكيل اللجنة الاستشارية بقوام 20 خبيراً قانونياً للعمل على فك عقد القوانين الانتخابية، التي يرى مراقبون أنها لاتختلف عن سابقاتها كثيراً إلا في ناحية العدد، فبينما اعتمدت مبادرات سابقة، مثل حوار الملتقى السياسي في عهد ستيفاني ويليامز عام 2020، على 75 عضواً من مختلف الشرائح الليبية، ومبادرة الحوار في عهد برناردينو ليوم عام 2015 على عدد كبير من أعضاء مجلسي النواب والدولة، تعتمد المبادرة الحالية على 20 شخصية ليبية فقط. لكن تقليص العدد مهم وفق رأي أستاذ القانون الدستوري فيصل حميدان الذي يلفت إلى أن الاختلاف ليس في العدد فقط،  بل في المهام وطبيعة الشخصيات أيضاً، فقلة عدد أعضاء اللجنة يسمح لهم بالتقارب أكثر، لكن الأهم هو اختيارهم من قبل البعثة وبمعزل عن مجلسي النواب والدولة أمر مهم لاستقلالهم عن تأثيرهما، ما يعطيهم قدرة أكثر على اختراق الواقع المعقد.

ولا يرى حميدان في حديثه لـ"العربي الجديد" في كلام البعثة عن اتجاه اللجنة اعتماد "نهج شامل" للتوصل إلى حلول النقاط الخلافية أنه يدعو إلى القلق والخوف من خروج اللجنة عن مهامها المحددة، بل يؤكد أنه "الخيار الأمثل للوصول إلى توصيات تنبع من واقع أزمة القوانين بربطها بالأسباب الجذرية التي نشأت فيها، ولا خلاف في أن اللجنة ولدت من رحم أزمة سياسية".

ويتساءل حميدان عن كيفية الفصل في شروط ترشح العسكريين عن واقع هيمنة السلاح على الأرض وإمكانية ترهيب الناخبين لتوجيه الأصوات نحو شخصية بعينها، وكذلك معالجة مشكلة حملة الجنسيات الأجنبية من دون إزالة المخاوف من خضوع أصحابها لضغوط الخارج وتحولهم إلى وكلاء لمصالح دول أجنبية في حال وصولهم إلى السلطة.

لكن عمومية بيان البعثة أثارت حفيظة مراقبين اعتبروه انعكاساً واضحاً لاستمرار الخلافات بين أعضاء اللجنة الاستشارية، خاصة أن طبيعة النقاط الخلافية مرتبطة بشخصيات بعينها ما يصعب عملية قبول نتائج عملها، فلو أوصت اللجنة بمنع ترشح العسكريين إلا بعد استقالتهم، سيفهم حفتر أنها أداة للضغط عليه للتنازل عن نفوذه العسكري، ومن ثم عرقلة مشاريع داعميه كمشروع موسكو العسكري التوسعي، وكذلك الأمر عند الدبيبة الذي سيبقى وضعه جدلياً، فحكومته لا تسيطر إلا على جزء صغير من البلاد ما لا يسمح لها بتأمين العملية الانتخابية، وتشكيل حكومة بديلة عنها لا يمكن معه استمرار نفوذ تركيا التي تركز نفوذها في طرابلس.

لكن الناشط السياسي محمود المسعودي يلفت إلى أن النقاط الخلافية لم تعد مرتبطة بشخصيات بعينها، بل توسعت لتشمل غيرها، فوضع ترشح العسكريين يشوبه عدم الوضوح بشأن قادة المليشيات في غرب البلاد إذا ما رغبوا في الترشح للانتخابات، خاصة أن أغلبهم مدنيون تحصلوا على رتب عسكرية إبان نقل تبعية مليشياتهم ضمن الأجهزة الشرطية والعسكرية. وكذلك في شرط عدم ترشح حملة الجنسيات الأجنبية، وفق رأي المسعودي الذي يشير في حديثه لـ"العربي الجديد" إلى أن أغلب من تقدموا بأوراقهم للترشح نهاية العام 2021 كانوا من حملة الجنسيات الأجنبية، مضيفاً: "عقدة العسكريين وإنشاء حكومة جديدة هما المشكلتان الأساسيتان في القوانين الانتخابية، ومن دون تقديم ضمانات لمن يستهدفهم الشرطان سيبقيان في حيز الجدل والرفض، ولهذا السبب على اللجنة أن تفكر وتعمل بنهج شامل".

ويتطلب التوصل إلى ضمانات يمكن أن تكون سبيلاً لقبول الأطراف بتوصيات اللجنة، أن تنخرط في تفاوض معها، ما يخرجها عن طبيعة عملها القانوني، وإذا ما التزمت بإجراء إصلاحات فنية في النقاط الخلافية فلن يتجاوز الأمر مطالب تقديم الأطراف تنازلات ما يفرغ عملها من مضمونه.

ويعبر المسعودي عن مخاوفه من تحميل اللجنة مسؤوليات فوق طاقتها واضطرارها في نهاية المطاف إلى القبول بمقترحات تمر من خلال موظفي البعثة، مضيفاً "البعثة تعرف جيداً منذ البداية أن جوهر الخلاف ليس قانونياً، بل خلفيات جاء من واقع صراع سياسي، ولهذا فهي تعرف أن اللجنة ستتورط فيه ولذا شكلتها من شخصيات مستقلة يمكن تمرير أي رؤى من الخارج عبرها وإضفاء الطابع القانوني عليها". وإن كان ذلك جيداً في ما يخص انتزاع قرار العملية السياسية من احتكار أطراف الصراع الليبي، وفقاً لرأي المسعودي، إلا أنه يدخل البلاد في أزمة تعقد صراع أطراف الخارج ويضيف "عقداً جديدة للأزمة السياسية ببعد دولي".

وواجهت المبادرات الأممية السابقة تعقد أبعاد الأزمة، ففي عام 2015، ركزت المبادرة على تشكيل حكومة وفاق وطني عبر اتفاق الصخيرات، لكنها تعثرت بسبب تجاهل الملف الأمني. وفي 2020، حاولت مبادرة ستيفاني ويليامز الجمع بين الإصلاحات القانونية والحوار السياسي، لكنها أهملت البعد الدولي والإقليمي وأدى ذلك إلى زيادة تغلغله في شكل تدخل عسكري تركي وروسي، ومروره على تنافس روسي غربي في الآونة الأخيرة. وهو جانب يلفت إليه المسعودي عندما يعتبر أن تزايد النفوذ الدولي نقطة خلافية أخرى عززتها المبادرات الأممية السابقة وتواجه اللجنة الاستشارية الآن تداعياتها.

ويرى المسعودي أن الأمم المتحدة تنتهج "نمطاً متكرراً في تدوير الأزمة لإخفاء إخفاقاتهم في ملائمة المصالحة الخارجية في الداخل الليبي، فنقطة الخلاف الجوهرية هي في نجاحها في خلق إرادة دولية للأطراف الفاعلة في ليبيا التي تتخذ من الأطراف المحلية أذرعاً لها، وهذا هو حقيقة الصراع الليبي، ذلك أن ليبيا ليست دولة فاشلة بسبب عجز القوانين، بل بسبب خضوع شخصيات الصراع فيها لنفوذ ومصالح حلفائها في الخارج".

قراءة المقال بالكامل