في مقابلة نشرتها مجلة باريس ريفيو قبل عقدين من رحيله، صرح ساحر الرواية اللاتينية، غابرييل غارسيا ماركيز، أنه: "لم يعرف فيلماً واحداً نجح في زيادة انتشار كتاب جيد، لكنه عرف العديد من الأفلام الجيدة التي ساهمت في زيادة انتشار كتب رديئة". ووعد قرّاءه في المقابلة: "سأعمل قدر استطاعتي على منع قصصي من الظهور على الشاشة".
التزم ماركيز بكلمته أمام قرّائه حتى رحيله، على الرغم من العروض المغرية التي وضعت أمامه، وبمبالغ طائلة لم يكن يتوقعها، إلا أن رحيل الكاتب بعد إصابته بمرض الزهايمر في إبريل/نيسان 2014، دفع ورثته إلى التفكير في استثمار وترويج الإرث الضخم الذي تركه غابو لهم.
هكذا، أُعلن في عام 2019 نجاح شبكة نتفليكس في الحصول على حقوق تحويل روايته الضخمة، "100 عام من العزلة"، إلى مسلسل تلفزيوني مدته 16 ساعة، موزعة على ستة أجزاء. وفي عام 2022، وبمناسبة مرور 40 عاماً على فوز ماركيز بجائزة نوبل للآداب عام 1982، أعلنت "نتفلكيس" بدء تصوير المسلسل في كولومبيا استجابة لشروط أسرة ماركيز، التي أصرت أيضاً على تصوير العمل باللغة الإسبانية وبفريق عمل كولومبي، من الممثلين إلى كتابة السيناريو والإخراج والتقنيين، وهو المسلسل الذي بدأت "نتفلكيس" عرضه أخيراً، وخرج مُتقناً وشديد الالتزام بالنص الأصلي للرواية، ما دفع العديد من الأقلام النقدية، خاصة تلك التي تخوفت في البداية من فشل المشروع، إلى الإشادة به منذ عرض حلقاته الأولى.
شكلت رواية "مائة عام من العزلة" محطة مهمة في حياة غابرييل غارسيا ماركيز (1927 - 2014). يروي المؤلّف خلالها قصة عائلة بوينديا، التي حلت عليها لعنة على مدى أجيال متعاقبة. تبدأ الرواية بقصة الحب التي تجمع بين الشاب خوسيه أركاديو بوينديا وقريبته الشابة أورسولا إغواران، ويضطر الزوجان إلى مغادرة موطنهما مع آخرين بعد جريمة قتل ارتكبها خوسيه دفاعاً عن شرف زوجته، ليعثروا على قرية ماكوندو الأسطورية، ونسمع صوت الراوي يستل جملة من النص الأصلي للرواية كما كتبه ماركيز حرفياً: "كانت ماكوندو آنذاك قرية من عشرين بيتاً من الطين والقصب، مشيدة على ضفة نهر ذي مياه صافية"، في الوقت الذي كان العالم فيه "حديث النشوء، حتى إن أشياء كثيرة كانت لا تزال بلا أسماء، ومن أجل ذكرها، كان لا بد من الإشارة إليها بالإصبع".
يمكننا استيعاب تخوف ماركيز من نقل أعماله الروائية إلى الشاشة، ذلك أن بناءها على الأساطير والخيال الشعبي الذي عايشه ماركيز بنفسه منذ نشأته الأولى، جعله يتخوف من أن شاشة السينما ستؤطر شخصياته في ملامح من سيؤدّونها، ومن ثم ستميت ما فيها من خيال، ولم يكن يعتقد أن "مائة عام من العزلة" بالتحديد قابلة للتصوير، لذلك استمر في رفض جميع عروض هوليوود حتى الرمق الأخير، لكن أبناءه أمضوا السنوات الست الماضية في العمل مع "نتفليكس" لنقل الكتاب إلى الشاشة، وقد تصدى أليكس غارسيا لوبيز، ابن ماركيز، للمشاركة في الإنتاج والإخراج، إلى جوار لورا مورا، وأسندت الأسرة كتابة السيناريو إلى كاتبتين محترفتين في كولومبيا، هما ناتاليا سانتا وكاميلا بروغيس.
تمزج الرواية، التي تغطي جزءاً من تاريخ عائلة ماركيز نفسه، بين القصص الخيالية والخارقة للطبيعة المليئة بالغموض والروحانية التي ورثها عن جده الذي كان عقيداً، وجدته التي نشأ معها في أراكاتاكا، القرية التي كانت نموذجاً لماكوندو في روايته التي شكلت قصيدة للواقعية السحرية، ولعالم وثقافة الجزء الكاريبي من كولومبيا الذي نشأ فيه غابو. عالم تحدث فيه أكثر الأشياء خارقة وغير واقعية، بدءاً من الخيميائيين الذين يطيرون فوق بسط سحرية، والموتى الذين يأكلون على الموائد، والفتيات الجميلات اللواتي يطرن صاعدات إلى السماء في وضح النهار.
وعلى الرغم من أن المسلسل يلتزم إلى حد بعيد بالفقرات الأصلية لرواية ماركيز، لكن هناك بعض الاختلافات أيضاً. ترصد الرواية التي صدرت للمرة الأولى عام 1967، سبعة أجيال من عائلة بوينديا، تبدأ من عام 1820 وصولاً إلى عشرينيات القرن الماضي، بعد أن أسس البطريرك خوسيه أركاديو بوينديا مدينة ماكوندو الخيالية على ضفة المستنقع الكبير، لتزدهر المدينة وتستقطب الغجر والباعة المتجولين، وعلى رأسهم الغجري ميلكياديس، الذي يزود بطل الملحمة خوسيه أركاديو بوينديا باكتشافاته الجديدة، كالمغناطيس والبوصلة والخرائط، في أسلوب أدبي برع خلاله ماركيز في استعراض الأفكار الداخلية لشخصياته. بدورهم، ركّز صناع المسلسل على الجانب البصري، وبرعوا في استعراض طبيعة كولومبيا الجبلية منذ الحلقة الأولى، مختصرين شخصيات الرواية العديدة إلى شخصيات رئيسية تتمحور حولها أحداث الملحمة. تقول كاميلا بروغيس كاتبة السيناريو لصحيفة ألباييس الإسبانية: "لذلك، انصب التركيز على شخصيتين رئيسيتين قويتين، هما الكولونيل بوينديا ووالدته أورسولا، التي تعيش لفترة أطول من الشخصيات الأخرى".
كان من الملاحظ أيضاً صوت الراوي الذي يربط بين الأحداث ويعلق عليها. تقول كاميلا بروغيس: "أردنا أن يكون ماركيز حاضراً معنا ونحن ننقل تحفته الروائية إلى الشاشة، فجعلنا منه راوياً للأحداث، إذ يبدأ المسلسل حرفياً بالجملة الأولى من الرواية: "بعد سنوات طويلة، وأمام فصيلة الإعدام، سيتذكر الكولونيل أوريليانو بوينديا ذلك المساء البعيد الذي أخذه فيه أبوه للتعرف على الجليد"، وهو الأسلوب الذي اتفقنا عليه للمحافظة على إيقاع السرد في رواية ماركيز الأصلية".
جدير بالذكر أن هذه هي المرة الأولى التي يُصوَّر أي عمل من أعمال غابرييل غارسيا ماركيز ويُنقل إلى الشاشة، ربما باستثناء وحيد حدث عام 1984، حين قدّم المخرج الياباني الطليعي، شوجي تيراياما، فيلماً تجريبياً فضفاضاً مبنياً على الرواية نفسها بعنوان "وداعاً للسفينة"، وقد شارك في مهرجان كان السينمائي عام 1985.
في عام 1965، كان غابرييل غارسيا ماركيز كاتباً هاوياً رثّاً في الثامنة والثلاثين من عمره، لم يكن قد باع ألف نسخة من كتبه الأولى بعد، لكنه لم ييأس. كان غابو، كما يُطلق عليه في كولومبيا، يفكر في رواية ستغير حياته، فحبس نفسه في غرفته لمدة عام ونصف العام، وانكبّ على كتابة روايته "مائة عام من العزلة" كالمجنون. نُشرت الرواية عام 1967 لتصبح من أكثر الكتب مبيعاً في جميع أنحاء العالم، بعد أن ترجمت إلى ما يزيد عن 40 لغة، وبيع منها 50 مليون نسخة حول العالم. حصل ماركيز على جائزة نوبل في الأدب عام 1982 عن أعماله الروائية الخيالية، خاصة تحفته "مائة عام من العزلة" التي "تعكس تاريخ وصراعات قارة بأكملها"، وفقاً لبيان لجنة تحكيم جائزة نوبل.
