تعيش أوروبا لحظات عصيبة مع تدني ثقتها بالعلاقة مع الحليف الأميركي على ضوء تصريحات رئيسها دونالد ترامب، خاصة بشأن الخلاف في النظرة إلى الحرب الأوكرانية وطبيعة العلاقة بروسيا.
وعلى مستوى "اقتصاد الحرب"، المتزايد منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/ شباط 2022، باتت أوروبا أكثر قلقاً مع انتشار حالة عدم اليقين في قدرتها على التسلح بعيداً عن أميركا. السباق مع الزمن لتخفيف ظهور القارة عاجزةً إذا ما أدخل الأميركيون تحكمهم بتسليح القارة لأجل ابتزازها وفرض رؤيتها في السياسات الدولية المتعلقة بروسيا والصين، وقضايا أخرى كثيرة تتعلق برغبة واشنطن تحقيق أرباح أكثر من علاقتها بالأوروبيين على مستويات عدة.
وقبل فترة قصيرة، وأثناء اندلاع أولى المواجهات في ديسمبر/كانون الأول الماضي بشأن تصريحات ترامب حول رغبته بشراء وضم جزيرة غرينلاند الدنماركية إلى السيادة الأميركية، ذهبت رئيسة حكومة كوبنهاغن ميتا فريدركسن إلى إطلاق تصريح "اشتروا اشتروا اشتروا"، في حديثها لوزارة دفاع بلادها، والشراء مقصود به شراء السلاح والذخائر، كذلك أطلقت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين تصريحها الشهير "نحن مستعدون للمساهمة في تسليح القارة"، إذاً وعلى ضوء التوتر في العلاقة بين ضفتي الأطلسي وتخلخلها غير المسبوق منذ تحالف الجانبين في الحرب العالمية الثانية، باتت أوروبا تنظر بجدية إلى مسألة الاستقلال التسليحي عن أميركا.
وبمعنى أصح، فإن حمّى سباق التسلح الأوروبي، ليست بمعزل عن خلاف الحليفين حول مصادر الخطر على أوروبا، فالأخيرة تصر على أن الخطر هو من الشرق، أي من روسيا، بينما الحليف الأميركي يرى تحت شعار "أميركا أولاً" أن الأمر ليس كذلك، وبضرورة التركيز على الصين، وبأن القارة إذا لم تخضع للقراءة الأميركية فعليها أن تقلع أشواكها بيديها، ما ينسف الضمانات الأمنية الأميركية في علاقتها بالحليف الأوروبي.
في الأسبوع الماضي اتفق الزعماء الأوروبيون على خطة إعادة تسليح "تاريخية"، كما سميت إعلامياً ومن خبراء، وبموجبها سيجري تخصيص 800 مليار يورو (872 مليار دولار) على مدى السنوات الأربع المقبلة لتسليح قارتهم. نحو 150 مليار يورو منها ستكون قروضاً على مدى السنوات الخمس المقبلة، أما الـ650 مليار يورو الأخرى فهي تأتي في سياق مساهمة الدول الأعضاء الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي (ناتو) بزيادة ميزانياتها الدفاعية إلى 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي. وتتربع بولندا على قائمة الناتو في نسبة الإنفاق الدفاعي من الناتج المحلي، بنحو 4.12% في عام 2024، وتلك نسبة تتفوق على نسبة الحليف الأميركي المقدرة بنحو 3.38%، وتحتل إسبانيا المرتبة الثلاثين وهي المرتبة الأخيرة في القائمة الأوروبية ـ الأطلسية بحوالى 1.28% من ناتجها المحلي الإجمالي.
ومع ذلك، فإن تخصيص نحو 200 مليار يورو سنوياً لا يبدو كافياً لترجمة "اشتروا"، كما نادت الدنماركية فريدركسن، بكثافة وسرعة، ولا إلى حلحلة معضلة أوروبا لتعزيز الصناعات الدفاعية فوق أرض القارة العجوز بالقدر الكافي لأجل الاستغناء عن الصناعات الأميركية.
عملياً يدرك الأوروبيون أن أكبر خمس شركات عالمية لصناعة التسليح هي شركات أميركية، وسيتعين على الصناعات الدفاعية الأوروبية المسارعة نحو عجلة إنتاج تعويضية، فأوروبا الراغبة في إعادة الحياة إلى شرايين صناعاتها العسكرية المتراجعة في سنوات الاسترخاء فترة ما بعد الحرب الباردة 1992 تضغط، بتخصيص هذه الأموال، على أكبر شركاتها الإنتاجية، بما فيها "بي إيه إي سيستمز" البريطانية، بالإضافة إلى شركات "إيرباص" الفرنسية ـ الألمانية و"ثاليس" الفرنسية و"ليوناردو" الإيطالية و"راينميتال" الألمانية و"رولزرويس" البريطانية و"ساب" السويدية.
وبحسب معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام، جاءت فرنسا وألمانيا بين 2020 و2024 ضمن أكثر خمس دول تصديراً للسلاح، ومنذ بداية الحرب الأوكرانية شهدت صناعة الأسلحة الفرنسية دفعة هائلة، لكن ذلك لا يعني أن الفجوة بين حاجات أوروبا التسليحية والتصنيع على أرضها لم تعد قائمة، فالأوروبيون يعترفون أن صناعاتهم العسكرية تتخلف كثيراً على مستويات الدفاع الجوي والسفن الحربية والذخيرة، وما زاد الأمر تعقيداً أن مخازنهم العسكرية التي فتحت للأوكرانيين عمقت تلك الفجوة، وإن زادت وعيهم بالمعضلة في خلال السنوات الأخيرة، وتدفع بعض شركاتهم للاستفادة من الحرب الأوكرانية.
وتشير الأرقام الأوروبية إلى أنه قبل الحرب الأوكرانية كانت شركة "راينميتال" الألمانية قادرة على إنتاج 70 ألف قذيفة مدفعية عيار 155 ملم سنوياً، ومن المتوقع لها بحلول 2027 أن يرتفع إنتاجها إلى أكثر من مليون قذيفة سنوياً، وبحلول عام 2022 كان يمكن لشركة "كيه أن دي أس" الفرنسية ـ الألمانية تسليم نظامين مدفعيين من طراز "سيزر" كل شهر، ومنذ تاريخه، وفقاً لمنظمة الصناعات الفرنسية "غيكات" (Gicat) انخفض وقت الإنتاج إلى النصف بحلول 2025، وباتت قادرة على تسليم ثمانية مدافع.
كذلك انتقلت شركة تصنيع الأسلحة الأوروبية "إم بي دي ايه" (MBDA) من إنتاج عشرة صواريخ "ميسترال" شهرياً في عام 2022، والتي تستخدم في الدفاع الجوي، إلى تصنيع 40 صاروخاً شهرياً اليوم مقلصة الفترة من الطلب إلى المنتج النهائي بعام واحد.
ومع أن مشتريات الأوروبيين التسليحية من الإنتاج الأميركي انخفضت من نسبة 80% إلى 60%، وفقاً لمركز أبحاث الأمن الفرنسي إيريس، فإن مسألة الاستقلال عن التسليح الخارجي، وأغلبه أميركي، أمر سيستغرق سنوات طويلة.
وبحسب تصريحات ماكسيم كورديي، مدير أبحاث في "إيريس" الفرنسي، لصحيفة بوليتيكن الدنماركية، فإن أوقات التسليم الأميركية والأوروبية باتت متماثلة تقريباً "وهذا يعني أنه لم يعد أي ميزة في طلب المنتجات الأميركية للتسليم السريع"، لكن المسألة لم تكن تتعلق دوماً بالتسليم السريع من أميركا، بل في أن المشتريات التسليحية كانت مرتبطة بالضمانات الأمنية الأميركية، التي أسست للعلاقة بأوروبا ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في 1945.
واليوم بات الأوروبيون ينظرون على مستويات التسلح إلى أن تلك الضمانات لم يعد مسلماً بها، وخاصة مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني الماضي، وانتهاجه سياسات شبيهة بولايته السابقة (2017 ـ 2021) حين أضفى شكوكاً كثيرة حولها، ما دفع آنذاك بالمستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى طرح استقلالية أوروبية أكثر عن واشنطن.
ويواجه الأوروبيون في رغبتهم الاستقلالية في الصناعات الحربية مشكلة تباين في القدرات الإنتاجية، فبينما تبدي فرنسا وألمانيا قدرة على توسيعها، فإن القارة عموماً لديها مشكلة في تأمين المواد الأولية والعمالة وتوسيع نطاق سلاسل التوريد، بعد عقود من نزع التسلح وإزالة بعض صناعاتها وسلاسل التوريد المرتبطة بها، ما يعني أن القدرة على تلبية الزيادات المفاجئة والهائلة في التصنيع الحربي غير ممكنة دون الاستيراد من الخارج.
وفي العموم، فإن تخصيص 800 مليار يورو للتسلح الأوروبي خلال السنوات الأربع القادمة لا يعني حلاً جذرياً لمعضلة التراجع الإنتاجي، إذ باشرت للتو الشركات الأوروبية في البحث عن موظفين مؤهلين في هذه الصناعات بعد سنوات من خفض إنتاجيتها.
ولأجل تلمّس نتائج استثمار تلك المليارات يقترح متخصصون في الصناعات الحربية أن يتوقف الأوروبيون عن الإنتاج الفردي والتوجه نحو تحديد المطلوب لإنتاجه جماعياً، كالدبابات والصواريخ وغيرها، كذلك ترتفع أصوات تطالب بتعزيز البديل الأوروبي لطائرات "F35" بمقاتلة "يوروفايتر" التي تصنعها إيرباص، ولتلك المقاتلات الأميركية قصتها التي تخيف الأوروبيين نتيجة قدرة واشنطن على تعطيل أنظمتها الرئيسية عن بعد، ما دفع البرتغال أخيراً إلى إلغاء شراء "F35".
وفي كل الأحوال يبدو مسار الاستقلال الصناعي التسليحي الأوروبي مساراً طويلاً، وسط تزايد حالة سباق تسلح في أجواء تشنّج أوروبي من مستقبل الحروب في قارتهم، وأعينهم على ما يمكن أن تقدم عليه روسيا في منطقة بحر البلطيق ودول الشمال عموماً، بالطبع ذلك كله مع غيره يأتي متزامناً مع ما يشبه غياب اليقين بالمظلة الأمنية الدفاعية الأميركية لحلفائها في أوروبا، في ظل غياب وحدة الأولويات والتحديات.
