تبرز مكتبة قطر الوطنية كحافظة للتراث الإسلامي والعربي، وتزخر بكنوز من المخطوطات والمصاحف النادرة التي تسلط الضوء على الإرث الفكري والتاريخي للحضارة الإسلامية. ومع حلول شهر رمضان المبارك، تكتسب هذه الكنوز بعدا روحانيا خاصا، إذ تتاح الفرصة للزوار والباحثين للاطلاع على مخطوطات فريدة توثق عادات المسلمين في هذا الشهر الفضيل، بالإضافة إلى مصاحف تعود إلى عصور مختلفة من التاريخ الإسلامي.
وفي هذا السياق، أوضح الدكتور محمود زكي، أخصائي المخطوطات بالمكتبة التراثية في مكتبة قطر الوطنية، لوكالة الأنباء القطرية /قنا/ أن المكتبة التراثية هي "قلب مكتبة قطر الوطنية" وتعنى بالكتب النادرة وأوائل المطبوعات، وكذلك المواد غير التقليدية مثل الخرائط، والوثائق، والمخطوطات، والصور الفوتوغرافية، وغيرها، مشيرا إلى أن هذه المواد تعنى بالتراث القطري، والخليجي، والعربي، والإسلامي، ثم التراث الإنساني بشكل عام ، مؤكدا أن جمع التراث وحفظه وإتاحته ودراسته وتقديمه في مختلف دوائره الوطنية والإقليمية العربية والإسلامية ثم الإنسانية، من أهم وظائف مكتبة قطر الوطنية.
وقال إن المكتبة التراثية غنية بالمخطوطات، والمجموعات القيمة الأخرى لا سيما مجموعات الكتب النادرة من أوائل المطبوعات العربية والأجنبية، لافتا إلى أن المصاحف المخطوطة المكتوبة في الصين وجزر الملايو أو جنوب شرق آسيا، وأخرى كتبها خطاطون بارعون من الدولة العثمانية وغيرها تعد من أنفس هذه المجموعات.
وتابع الدكتور محمود زكي، " إن ارتباط المسلمين بشهر رمضان المبارك كان ولا يزال ارتباطا روحيا لا مثيل له، ليس فقط في جانب الشعائر التعبدية، وإنما أيضا عبر العديد من العادات والتقاليد والمظاهر التراثية المرتبطة بهذا الشهر"، مشيرا إلى أن تراث المسلمين المكتوب يضم العديد من الرسائل والكتب الصغيرة وأجزاء من الأحاديث النبوية حول فضائل الشهر، والعشر الأواخر وليلة القدر وفقه الصيام، وبالطبع حول سلوكيات المسلمين في رمضان من العبادات، حتى إن بعضها تناول موضوع استقبال الشهر ووداعه. ومن أشهرها رسائل ابن الجوزي وأجزاء ابن عساكر.
وأكد الدكتور محمود زكي إمكانية الاطلاع على هذه المصادر داخل غرفة المطالعة بالمكتبة التراثية، عبر التواصل المسبق، ضمن ساعات العمل في شهر رمضان، كما يمكن زيارة صفحة المكتبة التراثية في قائمة "استكشف المكتبة" بموقع المكتبة الإلكتروني، كما أن كثيرا من المخطوطات متاح بصورة رقمية بالإتاحة الحرة على المستودع الرقمي للمكتبة.
وتفتح المكتبة أبوابها للزوار طوال ساعات عمل المكتبة لمشاهدة ذخائرها ونوادرها الأصلية مباشرة في معرضها الدائم الذي يحمل شعار "اقرأ"، وهي أول كلمة نزلت على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم - في غار حراء في ليلة مباركة من ليالي شهر رمضان وهي ليلة القدر.
وأضاف الدكتور محمود زكي أخصائي المخطوطات بالمكتبة التراثية، أن مكتبة قطر الوطنية تقتني كتابا مطبوعا نشر فيه مجموعة من النصوص التراثية القديمة حول الشهر الكريم، بعنوان: تذكير اليقظان بوظائف رمضان. ومخطوطا أصليا بعنوان "كتاب في فضائل شهر شعبان ورمضان"، بالإضافة إلى ما تحتويه المكتبة من مئات المصاحف المخطوطة الشريفة، وعشرات الكتب المخطوطة في التفسير، والحديث النبوي، والفقه الإسلامي بمذاهبه المختلفة، التي تحتوي على الآيات والأحاديث الرمضانية، فضلا عن الكتب والأبواب والفصول المخصصة للشهر الكريم، وفقه الصوم، وغيره.
وأشار إلى أن المكتبة تحتوي كذلك على مخطوطات كتبت في شهر رمضان أيضا مما يبرز نشاط العلماء والنساخ في الشهر الفضيل، مثل مخطوط صحيح البخاري، الذي يذكر الجزء السادس عشر منه تاريخ نسخه بالقول: "وفرغ منه في الحادي عشر من شهر رمضان المعظم من سنة سبعين وخمس مئة". هكذا جاء في آخر نسخة أندلسية عتيقة كتبت على الرق، وهي ضمن مجموعة من أقدم المخطوطات المؤرخة في المكتبة، أي التي كتب عليها تاريخ واضح وصريح وليس مجرد تقدير لعمر المخطوط ونسبته.
وعن أهمية المخطوطات في هذا الشهر الفضيل، أوضح الدكتور محمود زكي أخصائي المخطوطات في المكتبة الوطنية لوكالة الأنباء القطرية / قنا/، أن المخطوطات تحمل قيمة ثقافية وتاريخية عظيمة، مؤكدا أن قراءتها تتطلب مهارة خاصة، وأنه مما ينصح به في شهر رمضان قراءة المصاحف المخطوطة، فالنص القرآني واحد محفوظ، ولذلك يمكن قراءته بسهولة للحافظ والمراجع. فالنظر في المصاحف المخطوطة مفيد وممتع للذين يحملون في قلوبهم حب القرآن ويحرصون على تلاوته وتفهم معانيه، إذ تتيح لهم التواصل بينهم وبين أصول هذا الكتاب الكريم، كما أن المصاحف المخطوطة تشكل سلسلة متصلة الحلقات بدايتها مصحف الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ونمسك اليوم بطرفها الممتد عبر السنين من خلال هذه المصاحف، المعززة بالرواية الشفهية للقراءة القرآنية.
وفيما يتعلق بصيانة المخطوطات والمصاحف النادرة، كشف زكي أن مكتبة قطر الوطنية تمتلك مركزا متخصصا في الحفظ والصيانة، يعد الأول من نوعه في المنطقة العربية والمعتمد من الاتحاد الدولي لجمعيات ومؤسسات المكتبات (الإفلا)، حيث يوفر أحدث التقنيات لتحليل المواد والحفاظ عليها وفق أعلى المعايير الدولية، حيث يستخدم المركز تقنيات حديثة في تحليل المواد للحصول على الكثير من المعلومات حول تكوين كل مادة في المكتبة دون التسبب في تلفها أو التأثير على استدامتها.
وأضاف أن المكتبة أطلقت مشروعا مشتركا العام الماضي بالشراكة مع معهد قطر لبحوث البيئة والطاقة، يهدف إلى تطوير منهجيات مبتكرة لصون المخطوطات والوثائق التراثية، منوها إلى أن المشروع يساهم في تعزيز فهم طبيعة الحبر القديم المستخدم في المخطوطات وعملية إنتاج الأصباغ ومسارات تجارة الأصباغ النادرة التي كانت مستخدمة في القرن العاشر الميلادي والعصور اللاحقة.
وأشار إلى أن هذا التعاون سوف يمتد تأثيره إلى المؤرخين العاملين في هذا المجال وعلماء المخطوطات أيضا، حيث سيسفر عن إبرام شراكات وتكوين شبكات تعاون بحثية جديدة، لا سيما في الدول الآسيوية مثل إيران وماليزيا وإندونيسيا ـ موضحا أن لدى المكتبة قسما للرقمنة يعمل على تحويل مختلف المواد التراثية والثقافية إلى نسخ رقمية للمحافظة عليها للأجيال القادمة، بما في ذلك المخطوطات والكتب والخرائط والمواد الصوتية والمرئية. وقد نجحت المكتبة في رقمنة أكثر من 16 مليون صفحة حتى الآن.
وقال الدكتور محمود زكي أخصائي المخطوطات بالمكتبة التراثية، في ختام حديثه لـ /قنا/، إن المكتبة تعمل على اقتناء المخطوطات النادرة عبر برامج الجمع والحفظ، حيث تسعى للحفاظ على التراث الوثائقي لدولة قطر والمنطقة، مع التركيز على المخطوطات الإسلامية والتاريخية. وتكرس مكتبة قطر الوطنية جهود فريقها من الخبراء الدوليين الحاصلين على أعلى مستويات التدريب، وإمكانيات معاملها المزودة بأحدث الأجهزة والتقنيات في العالم، من أجل الحفاظ على التراث الثقافي لدولة قطر والمنطقة لأجيال المستقبل، من خلال التعامل مع أي متطلبات أو مهام تتعلق بصيانة المواد والمحافظة عليها.