خلال الأسبوع الماضي، بدأ اسم "ديبسيك" ينتشر في أوساط قطاع التكنولوجيا في الولايات المتحدة. تطبيق ذكاء اصطناعي مصدره الصين، أنتج بكلفة رخيصةٍ جداً، ويعمل بكفاءة عالية تضاهي نماذج الذكاء الاصطناعي الأميركية الشهيرة، مثل "تشات جي بي تي" من شركة أوبن إيه آي و"جيميني" من شركة غوغل.
انتقل الحديث عن "ديبسيك" بسرعة كبيرة إلى منصات التواصل الاجتماعي، وأخذت أعداد مستخدمي نموذج الذكاء الاصطناعي الجديد تتزايد بشكل كبير. وبحلول يوم الاثنين الماضي، تخطى "ديبسيك" تطبيق "تشات جي بي تي" في عدد التنزيلات من متجر تطبيقات آبل ستور.
سارعت كبريات الصحف ومحطات التلفزيون العالمية للتعرف على التطبيق الجديد، الذي استطاع بميزانية لا تتجاوز 5,6 ملايين دولار، مجاراة الشركات الأميركية التي أنفقت مئات مليارات الدولارات للهيمنة على قطاع الذكاء الاصطناعي المزدهر، وألحقت بها خسائر ضخمة في البورصة، أبرزها خسارة شركة إنفيديا، قرابة 600 مليار دولار من قيمتها السوقية، الاثنين، في أكبر خسارة تسجلها أي شركة في يوم واحد في تاريخ الولايات المتحدة.
وتشابهت عناوين التقارير والمقالات حول "ديبسيك" في المنصات الإخبارية، فكتبت مراسة التكنولوجيا في بي بي سي ليلى جمالي: "تطبيق ديبسيك الصيني يهز صناعة التكنولوجيا ويجرح كبرياء أميركا"، وفيما اقتبست صحيفة غارديان البريطانية عن مستثمر أميركي وصفه "ديبسيك" بأنّه مثل مشروع القمر الاصطناعي السوفييتي سبوتنيك، والذي أشعل سباق الفضاء خلال الحرب الباردة مع الولايات المتحدة.
نجاح شركة ديبسيك بإنتاج نموذج ذكاء اصطناعي متطور للغاية وبكلفة أقل بكثير مما كان يعتقده خبراء القطاع، أثار موجة من الأسئلة، أهمها مدى قدرة الشركات الأميركية على الاستمرار بالمنافسة في مجال الذكاء الاصطناعي. فنشرت "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" تقاريراً متعددة حول التطبيق الصيني الجديد الذي "هزّ وادي السليكون"، من بينها مقال تطرّق إلى "الآثار الزلزالية المحتملة لديبسيك على قطاع الذكاء الاصطناعي الأميركي". كما أجرت منصات أخرى مثل شبكة سي أن أن الأميركية اختبارات على التطبيق ومقارنته مع تطبيقات أخرى، مثل "تشات جي بي تي".
ما هي شركة ديبسيك الصينية؟
أنتج برنامج ديبسيك من قبل شركة ناشئة تحمل الاسم نفسه، أسسها ليانغ وينفنغ في عام 2023، في مدينة هانغتشو شرقي الصين، والمعروفة بأنها تضم عدداً كبيراً من شركات التكنولوجيا.
الهدف المعلن للشركة هو إنتاج ذكاء اصطناعي عام، وهو مصطلح يشير إلى الذكاء البشري الذي لم تصل إليه أي شركة تكنولوجيا حتى الآن، بحسب "غارديان". فما الذي أشعل هذه الضجة حولها؟
في الأسبوع الماضي، نشرت الشركة ورقة بحثية تشرح بالتفصيل عملية تطوير نموذج الذكاء الاصطناعي الخاص بها، مع تفاصيل البنية التحتية التقنية، وبيّنت كيف أنها تعمل باستخدام عدد أقل بكثير من شرائح الكمبيوتر بالمقارنة مع نماذج الذكاء الاصطناعي الأميركية، مما يخفض كلفة تشغيل نموذج الذكاء الاصطناعي بشكل هائل.
مع العلم أن أحد أسباب بحث "ديبسيك" عن طريقة تشغيل مختلفة يعود إلى العدد المحدود لشرائح الكومبيوتر المتاحة لهم والأقل تطوراً من منافسيها الغربيين، نتيجة القيود التي فرضتها إدارة جو بايدن على تصديرها إلى الصين.
كيف يعمل التطبيق؟
يمكن لأي شخص تحميل "ديبسيك" كتطبيق على الهاتف من متجري آبل وأندرويد أو كبرنامج على جهاز الكومبيوتر، وهو يمنح المستخدمين أدوات مشابهة لتلك التي تقدمها تطبيقات المنافسة، ويتيح لهم كتابة أي سؤال أو طلب في خانة المحادثة، ومن ثم يجيبهم. كما يمكنه التواصل بلغات عدة، وإن كان أكثر كفاءة في اللغتين الإنكليزية والصينية، بحسب ما قاله لوكالة فرانس برس.
بحسب "واشنطن بوست"، يمكن لنموذج الذكاء الاصطناعي الذي يشغّل "ديبسيك" معالجة كميات هائلة من البيانات وفرزها لتحديد الأنماط والتنبؤ وحل المشكلات، بشكل مماثل لنماذج الذكاء الاصطناعي التي تعتمد عليها برامج مثل "تشات جي بي تي" و"جيميني". كما يقول باحثوها إنهم طوروا تقنيات تسمح بتدريب وتطوير نموذجهم بشكل أكثر كفاءة من منافسيهم.
وقال الرئيس التنفيذي لشركة سكيل إيه آي الأميركية، ألكسندر وانغ، لشبكة سي إن بي سي التلفزيونية: "ما لاحظناه هو أن ديبسيك... كان أفضل أو قدّم أداء متساوياً مع أفضل النماذج الأميركية".
وعلى العكس من "أوبن إيه آي"، أتاحت "ديبسيك" نماذج الذكاء الاصطناعي الخاصة بها مجاناً للآخرين للتنزيل والتعديل، وهي استراتيجية تبنتها شركة ميتا مع نموذج الذكاء الاصطناعي الخاصة بها "لاما". يعني ذلك أن الشركات الأخرى يمكنها استخدام "ديبسيك" لتعزيز منتجات الذكاء الاصطناعي الخاصة بها.
وكتب رئيس الأبحاث في شركة إنفيديا، جيم فان، عبر منصة إكس، الاثنين: "تواصل شركة غير أميركية تنفيذ مهمة أوبن إيه آي الأصلية: البحث المفتوح المتطور الذي يعود بالنفع على الجميع".
هل من رقابة على المحتوى؟
مثله مثل معظم تطبيقات الذكاء الاصطناعي، يجمع "ديبسيك" كمية هائلة من المعلومات الشخصية، بما فيها المحادثات التي يجريها المستخدم معه، إضافةً إلى معلومات تقنية حول الجهاز وكيفية الاتصال بالإنترنت. كما يمكن للحكومة الصينية أن تصل إلى هذه البيانات، خاصةً أنها تتمتع بصلاحيات واسعة للتدخل في عمل الشركات، وفقاً لصحيفة واشنطن بوست الأميركية.
فيما أوضحت صحيفة غارديان البريطانية أن "ديبسيك" رفض التعليق على أسئلة حول قضايا سياسية حساسة في الصين، مكتفياً بإجابة مقتضبة تقول: "آسف، هذا خارج نطاقي الحالي. دعنا نتحدث عن شيء آخر". ومن بين المواضيع التي رفض التطبيق التطرق إليها أحداث ميدان السلام في يونيو 1989، وثورة المظلات في هونغ كونغ، إضافةً إلى تشبيه الرئيس الصيني تشي جين بينغ بشخصية فيلم "ديزني" ويني ذا بوه.
مع ذلك، نجح مستخدمون آخرون بدفعه للتحدث عن هذه المواضيع من خلال الطلب منه استبدال حروف معينة بأرقام للتحايل على الرقابة. لكن في المجمل، قدم التطبيق أجوبة متطابقة مع الموقف الرسمي الصيني من قضايا وشخصيات سياسية مختلفة، مثل استقلال تايوان والنزاعات في بحر الصين والدالاي لاما.
هل تخطت الصين الحظر الأميركي؟
عزّز الصعود المفاجئ لتطبيق ديبسيك طموحات الصين التكنولوجية بأن تصير رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030، مع وجود خطط استثمارية تتجاوز قيمتها عشرات مليارات الدولارات. كما بيّن، بحسب وكالة فرانس برس، أن الشركات الصينية قد بدأت تتجاوز العقبات التي واجهتها في السنوات الأخيرة، خاصةً بسبب الضغوط الأميركية.
وكانت الولايات المتحدة في عهد الرئيس بايدن قد منعت تصدير شرائح الكومبيوتر إلى الصين، خشيةً من أن تستخدمها في مواكبة التطور الأميركي في قطاع الذكاء الاصطناعي، خاصةً لأغراض عسكرية واقتصادية. ثمّ عاد بايدن قبل رحيله ووضع قيوداً حدّت من صادرات الشرائح الإلكترونية إلى معظم دول العالم، وذلك بهدف وقف تهريبها إلى الصين.
وفي حين يعلق بعض الخبراء الأميركيون آمالهم على نموذج الذكاء الاصطناعي الجديد "أو 3" من "أوبن إيه آي"، خاصةً أنّه حقق نتائج لا مثيل له بين أقرانه، يبدي كثيرون تخوفهم من أن الصين ستواصل التقدم على غيرها في مجال أنظمة الذكاء الاصطناعي مفتوحة المصدر.
في الخلاصة كان انفجار "ديبسيك" أشبه بقنبلة مدوية في قطاع التكنولوجيا الأميركي، لكن نتائجها لن تتضح سوى في قادم الأيام، فهل فازت الصين في معركة الذكاء الاصطناعي أم أنّنا في الجولة الأولى من نزال طويل؟
