منذ خروج رئيس النظام السوري السابق بشّار الأسد من المشهد العام، يطغى مصطلح "العثمانية الجديدة" على الخطاب الأمني والإعلامي في إسرائيل، وفي مستوىً تتكوّن حوله قناعة ملؤها احتمال الصدام بين أنقرة وتلّ أبيب، تتحوّل سورية خلاله ميدانَ نزاعٍ بين الطرفَين، اللذَين أصبحا "جارَين"، بعد لجوء الأسد إلى موسكو.
ما بين العاشر من ديسمبر/ كانون الأول الماضي (2024) و19 فبراير/ شباط الجاري، يمكن الاستناد إلى عشرات المواقف والمقالات الإسرائيلية التي تتقاطع حولها التحذيرات من التمدّد التركي في سورية، واقتراب القوى السورية الحليفة لأنقرة من هضبة الجولان وجبل الشيخ، ما يضيف إلى التحدّيات الاستراتيجية الإسرائيلية عاملاً لم يكن في دائرة الحسابات، وذاك العامل يتمثّل بانبعاث "العثماني المرقّط"، الذي يحمل في دواخله وسرائره شرّاً مستطيراً، قد تضطرّ إسرائيل إلى مواجهته عاجلاً أو آجلاً، مثلما يكاد يُجمِع المعلّقون الإسرائيليون.
من جديد التصريحات المندرجة أخيراً في سياقات التحذير من الخطر التركي في سورية موقف أطلقه وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر (18/2/2025)، قال فيه "إن تركيا تتعاون مع إيران لتهريب الأموال إلى حزب الله في لبنان"، ليعقبه بعد يوم تقرير نشرته صحيفة جيروزاليم بوست، تضمّن توضيحات حيال القلق الإسرائيلي والغربي من الطموحات التركية في سورية، والشرق الأوسط عموماً، فيما التحذير الأكبر، بحسب شبكة البثّ الإسرائيلية (6/1/2025)، ورد في الخلاصة التي قدّمتها لجنة ناغل إلى حكومة نتنياهو، أوصت فيها بضرورة "التحضير للحرب مع تركيا، فالقوى المتطرّفة الحاكمة في دمشق هي جيش متقدّم لأنقرة أخطر بآلاف المرّات من المشروع الإيراني".
كتب رامي سيمني في "يديعوت أحرونوت" (31/12/2024): "بعد إيران، يأتي التهديد الأكبر لإسرائيل من نظام رجب طيّب أردوغان، الذي يعمل لإقامة سلطنة عثمانية جديدة
سيتحدّث عن هذا المضمون نفسه اللواء إسحاق بريك في مقالتَين، واحدة نشرتها "معاريف" (23/12/2024)، والأخرى أدرجتها "هآرتس" (11/2/2025). في الأولى يقول بريك: "بعدما سيطر المتطرّفون على سورية، صدح المستويان السياسي والأمني بصيحات الفرح المهلّلة بالأضرار الكبيرة التي أصابت محور الشرّ الإيراني، تلك الصيحات تذكّرني بغرور وغطرسة كانا قبل الهجوم على مستوطنات غلاف غزّة، بإمكان أيّ عاقل أن يُقرّ بأن محور الشر الإيراني تلقّى ضربةً، لكن هناك محور شرّ أكثر خطورة قد ينشأ في سورية، ويقوده الأتراك". وجاء في المقالة الثانية أن "التهديد الوجودي الحالي لإسرائيل لا يُقارَن بالتهديد الوجودي المستقبلي، فالجيش الإسرائيلي البرّي هو جيش صغير، ولن يتمكّن من خوض الحرب على خمس جبهات في المستقبل، من ضمنها جبهة الدولة الجهادية في سورية المدعومة من تركيا". وليس بعيداً من ذلك، كتب رامي سيمني في "يديعوت أحرونوت" (31/12/2024): "بعد إيران، يأتي التهديد الأكبر لإسرائيل من نظام رجب طيّب أردوغان، الذي يعمل لإقامة سلطنة عثمانية جديدة، ويتحدّث عن احتلال إسرائيل. وأردوغان لا ينفكّ يتحدّث عن سورية الواحدة، وفي طريقه لاحتلال الشرق الأوسط، يحتاج أردوغان إلى الهدوء على حدوده، فيما المصلحة الإسرائيلية مغايرة تماماً، وتقتضي اختفاء سورية من الوجود".
بعد يومين من مغادرة الرئيس السوري السابق بشّار الأسد بلاده، كتب يوآر ليمور في صحيفة يسرائيل هيوم، المقرّبة من نتنياهو: "من كان يظنّ أن المحور الإيراني يشكّل التحدّي الأكبر، عليه أن ينتظر تحدّياً إضافياً يمثّله أردوغان، سيّد الثوار في سورية". وأعقبه يعقوب عميدور، في "معاريف" (14/12/2024)، فقال: "تركيا هي المستفيد الأول من الحدث السوري، وهذه الاستفادة تتماشى مع الرؤية العثمانية ـ الإسلامية للحكومة التركية الحالية، وهي التي بذلت جهوداً كبيرة لتوسيع دائرة نفوذها في العالم العربي. إن وصول التنظيمات المدعومة من تركيا إلى هضبة الجولان، يمكن أن يزيد الاحتكاك والتوتّر بين تركيا وإسرائيل، فالأخيرة تعادي إسرائيل بشدّة، لكنّها لم تواجهها بصورة مباشرة حتى الآن، ويتوجّب علينا عدم السماح بتشكيل محور تكون سورية في قلبه، وهو محور لديه قدرات تلحق أضراراً غير قليلة بإسرائيل".
وعن تلك "العثمانية الجديدة"، كتب كلٌّ من إيال زيسر في "يسرائيل هيوم"، وعاميت ياغور في "معاريف"، فرأى الأول في مقالته (21/12/2024)، أن "سورية هي جزء من الصورة الكبيرة (الشرق الأوسط)، وكما كان لإيران طموح كبير، فإن لأردوغان أيضاً طموحاً كبيراً باسترجاع أمجاد السلطنة العثمانية التي حكمت الشرق الأوسط كلّه، والعداء لإسرائيل هو الشماعة التي يحاول أردوغان من خلالها لصق كلّ أجزاء الأحجية الشرق أوسطية لضمان سيطرته عليها". وتحدّث الثاني (28/12/2024)، عن تسلّل تركيا "إلى حدود إسرائيل، ففي هذه الأيام نشهد عمليةً استراتيجيةً مهمةً للغاية، فسيطرة تركيا على سورية، تنذر ببداية صوغ نظام إقليمي جديد، ومعنى ذلك أننا نشاهد بأم العين نموذجاً للإمبراطورية العثمانية، وفق الصيغة الأردوغانية، أي منطقة يقودها ويهيمن عليها محور الإخوان المسلمين، الذي يحلّ محلَّ محور المقاومة".
ثلاث رؤى تواجه بها إسرائيل تركيا، مزيد من قضم الأراضي السورية، وسدّ سبل توحيدها، وحلف إقليمي ينازع دور تركيا عربياً
ومع بداية العام الحالي (2025)، تكثّفت النقاشات الإسرائيلية المرتبطة بالمتغيّرات السورية وصلتها بالدور التركي، مثلما أوردت "يسرائيل هيوم" (9/1/2025)، وتلاه تقرير في "جيروزاليم بوست"، بعد يومَين، انطوى على توصيات محذّرة من التحالف بين دمشق وأنقرة... ويطرح ذلك كلّه سؤالاً إسرائيلياً استراتيجياً: كيف يمكن أن تواجه إسرائيل هذا التحدّي، أو ما يسمّيه عاميت ياغور "أردوغنستان"؟
الإجابة عن هذا السؤال تكمن في ثلاث رؤى، تتمثّل الأولى بمزيد من قضم الأراضي السورية، والثانية تسدّ السُبل أمام توحيد سورية عبر ترسيخ مناطق النفوذ الأمنية، والثالثة تشدّد على بلورة حلف إقليمي ينازع الدور التركي في العالم العربي، ويناهض في الوقت نفسه الاتجاه العقائدي للإدارة الجديدة في سورية.
قبل تسعة أعوام (وبالتحديد في 19/12/2016)، وحين كانت الحرب السورية في ذروتها، ناشد وزير الدفاع الإسرائيلي موشي يعلون الرئيس دونالد ترامب، المنتخب حديثاً آنذاك لولاية رئاسية أولى، أن يعمل لتقليم أظافر رجب طيّب أردوغان، لأنه هاجم حلفاء الولايات المتحدة في شمال شرقي سورية، واستضاف قادة "حماس" في إسطنبول. وبعد تحوّلات الحُكم والسلطة في سورية، وفوز ترامب بولاية رئاسية ثانية، كتبت الخبيرة الإسرائيلية بالشؤون التركية إفرات أفيف: "ثمّة احتمال نشوب مواجهة تركية ـ إسرائيلية، وهذا وضع غير مسبوق".
ماذا في جعبة الأيام؟... الله أعلم.
