في ظل انتخاب جوزاف عون رئيساً للجمهورية وتكليف نواف سلام بتشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، يتطلع اللبنانيون إلى بصيص أمل لتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية. البلاد التي تعاني واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخها الحديث منذ أواخر 2019، تواجه تحديات متزايدة نتيجة العدوان الإسرائيلي الأخير الذي أسفر عن خسائر اقتصادية قدرت بمليارات الدولارات.
وفي ظل الأوضاع السياسية المستجدة تبرز تساؤلات حول قدرة القيادة الجديدة على مواجهة الأزمات الاقتصادية الحادة التي تعصف بالبلاد منذ أواخر عام 2019. الأزمات المتراكمة، التي صنّفها البنك الدولي بين أسوأ ثلاث أزمات عالمية منذ القرن التاسع عشر، فاقمتها تداعيات العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، مما زاد من تعقيد الوضع الاقتصادي والاجتماعي.
ووفقاً لتقرير صادر عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا "إسكوا"، تجاوزت نسبة الفقر في لبنان 82% من السكان، مما يعكس حجم التدهور في الأوضاع المعيشية. يأتي ذلك في ظل استمرار انهيار الليرة اللبنانية وتآكل القدرة الشرائية للمواطنين، مع تضخم مفرط وصل إلى مستويات غير مسبوقة.
كما زاد العدوان الإسرائيلي الممتد من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وحتى نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 من أعباء الأزمة الاقتصادية. حيث استهدف العدوان الممنهج البنية التحتية ومرافق حيوية، مما أسفر عن خسائر اقتصادية مباشرة وغير مباشرة قدّرت بحوالي 12 مليار دولار. كما تسببت هذه الأحداث في شلل قطاعات رئيسية، مثل الصناعة والسياحة والتجارة، مما زاد من تعميق الركود الاقتصادي.
وفي هذا السياق، أكد أنيس أبو ذياب الخبير الاقتصادي وعضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي في لبنان، في تصريحات لوكالة الأنباء القطرية، أنّ من أبرز مهام الحكومة اللبنانية بعد نيلها الثقة من قبل مجلس النواب تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان (البنك المركزي)، مشدداً على ضرورة إعادة هيكلة القطاع المصرفي وإعادة النظر في قانون النقد والتسليف.
الحكومة اللبنانية وإصلاح صندوق النقد
وشدد عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي في لبنان على ضرورة إعادة التواصل مع صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية، "لأنّ إعادة إعمار ما دمّره العدوان الإسرائيلي الأخير تتم عبر البنك الدولي من خلال إدارته الصندوق وبتمويل عربي وغربي"، مشدداً على "ضرورة حل مشكلة الكهرباء نظراً للعبء الذي يلقيه هذا القطاع على نفقات الموازنة سنوياً".
كما أكد ضرورة إعادة هيكلة القطاع المصرفي من خلال تقييم موجودات المصرف، والعمل على دمج بعض المصارف أو زيادة رسملة البنوك وحل أزمة المودعين، مشدداً على أهمية إعادة هيكلة المالية العامة، خاصة في سياق حل العجز في الموازنة وتصفير العجز في الموازنة، من خلال إعادة النظر بإعداد الموازنات والانتقال من موازنة البنود أو الموازنة التقليدية إلى موازنة الأداء التي توجب وضع خطط وبرامج.
ولفت إلى ضرورة الاستعجال بهيكلة القطاع العام من خلال رفع إنتاجيته وتنافسية القطاعات الاقتصادية، مع أهمية التزام الحكومة اللبنانية بملف إعادة الإعمار الذي يساهم أيضاً في تنشيط الدورة الاقتصادية، مؤكداً أهمية التزام لبنان تطبيق كافة القرارات الدولية، وفي مقدمتها القرار 1701 كشرط دولي للمساعدات.
ويرى مراقبون أنّ أمام الحكومة اللبنانية الجديدة عدة ملفات، أبرزها إعادة إعمار القرى والبلدات مع دمار كبير في الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع شرقي لبنان وهو ما يحتاج مليارات الدولارات. وفي هذا السياق، أكد محمد شمس الدين الخبير الاقتصادي في "الدولية للمعلومات"، في تصريح مماثل لوكالة الأنباء القطرية، أنّ الخسائر جراء العدوان الإسرائيلي على لبنان تقدر بحوالي 12 مليار دولار بين خسائر مباشرة وغير مباشرة، لافتاً إلى أن العدوان الإسرائيلي أدى إلى خسائر مباشرة تشمل البنى التحتية والمنازل، مع دمار حوالي 50 ألف وحدة سكنية بشكل كلي إلى جانب دمار حوالي 317 ألف وحدة سكنية بشكل جزئي، حيث تقدر كلفة إعادة إعمارهم حوالي ثمانية مليارات دولار، موضحاً أن الخسائر غير المباشرة للحرب على الاقتصاد والناتجة عن تراجع الأعمال خلال الحرب تقدر بحوالي أربعة مليارات دولار.
ويواجه الاقتصاد اللبناني تحديات كثيرة، وهو ما يتطلب خطة اقتصادية جديدة لإعادة النهوض بعد انهيار اقتصادي منذ عام 2019، بسبب السياسات المالية والنقدية والاقتصادية التي ألقت بثقلها على الأموال الموجودة في المصارف أيضاً، إلى جانب ترهل القطاعات الإنتاجية في البلاد وعجز في الميزان التجاري بسبب استيراد المنتجات من الخارج بأكثر من 20 مليار دولار مقابل التصدير بقيمة ثلاثة مليارات دولار فقط وفقاً للأرقام الرسمية المعلنة، والذي تزامن أيضاً مع انهيار الليرة اللبنانية مقابل الدولار التي فقدت أكثر من 98% من قيمتها، ووصلت إلى متوسط 90 ألف ليرة لبنانية للدولار الواحد بعد ثباتها لسنوات بقيمة 1500 ليرة مقابل الدولار الواحد وهو ما أثر على القوة الشرائية للمواطنين وجعل تأمين احتياجاتهم تحدياً يومياً.
تحديات أساسية
وفي هذا الإطار، أكد الخبير الاقتصادي السيد خالد أبو شقرا، في تصريح لوكالة الأنباء القطرية، أنّ لبنان دخل العام الجاري 2025 في ظل جملة تحديات أساسية، وفي مقدمتها النفقات التي يحتاجها لبنان لإعادة إعمار المساكن والبنى التحتية التي دمّرها العدوان الإسرائيلي.
وأفاد أبو شقرا بأن من بين التحديات أيضاً أمام الحكومة اللبنانية الجديدة عدم إقرار موازنة عام 2025 التي كان يتوجب إقرارها قبل انتهاء العقد الثاني لمجلس النواب العادي خلال عام 2024، لافتاً إلى عدم مناقشة موازنة العام الجاري ضمن المهلة القانونية في لجنة المال ولا اللجنة العامة بمجلس النواب.
وأوضح أنّ عدم إقرار الموازنة بمجلس النواب قبل فبراير/ شباط المقبل، يعرضها لإمكانية إقرارها بمرسوم في مجلس الوزراء كما جاءت عند تقديمها ضمن المواعيد الدستورية من قبل الحكومة اللبنانية إلى مجلس النواب، لافتاً إلى أن خطورة إقرار الموازنة في مجلس الوزراء كما تم تقديمها من قبله إلى البرلمان تكمن أن أرقامها لم تعد تتطابق مع الواقع الاقتصادي والمالي بعد الحرب، حيث قدرت الموازنة الصادرة عن الحكومة اللبنانية الإيرادات بـ4.8 مليارات دولار ومعظمها من الضرائب والرسوم، ومنها 200 مليون دولار عبر الاستدانة، لافتاً إلى صعوبة تحقيق هذه الإيرادات مع تراجع النشاط الاقتصادي وانكماشه بحدود 9 إلى 11% بحسب البنك الدولي خلال العام 2024 وبداية عام 2025، إلى جانب إقفال المؤسسات وتراجع نشاطها وتباطؤ الاقتصاد إلى جانب إعطاء المهل من قبل وزارة المالية لتسديد الرسوم والضرائب بسبب الحرب وما نتج عنها.
وأشار إلى أن النفقات المحددة بالموازنة والتي تقدر بحوالي 4.6 مليارات دولار و"هو رقم غير واقعي"، على حد تعبيره، بسبب نفقات أكبر تحتاجها عمليات رفع الأنقاض بعد العدوان، وإضافة خمس رواتب إضافية للموظفين في القطاع العام إلى جانب الإنفاق على القطاع الصحي والضمان الاجتماعي وبالتالي هناك الكثير من التحديات في سياق الإنفاق الحكومي. ورأى أن أرقام الموازنة لا تتناسب مع واقع ومتطلبات الإنفاق.
وأوضح أبو شقرا أن التحدي الآخر أمام الحكومة اللبنانية برئاسة سلام، يتمثل في سداد سندات "يوروبوندز"، مبيناً أنه في 7 مارس/ آذار 2025 يكون قد مضى خمس سنوات على تخلف لبنان عن سداد هذه السندات. وأضاف أنه "في حال لم يبادر لبنان لمعالجة هذه المسألة في أسرع وقت ممكن وبطريقة ترضي الدائنين هناك احتمال بتقديم شكاوى على الدولة اللبنانية أمام محاكم نيويورك، كما تنص العقود لحفظ حقوقهم، وذلك للمطالبة بالفائدة لأنه في حال عدم رفع الدعاوى من قبل الدائنين قبل انتهاء الخمس سنوات يسقط حقهم بالمطالبة بالفائدة". ولفت إلى أنه في حال الدعاوى من قبل الدائنين أمام محاكم نيويورك سيقف الاقتصاد اللبناني أمام مزيد من الضغوط والخسائر وهو ما يهدد أصول الدولة ومنها الذهب وممتلكات الدولة حسب حكم محاكم نيويورك لتحصيل حقوق الدائنين.
ولفت إلى أن من التحديات التي تواجه الحكومة اللبنانية الجديدة والاقتصاد اللبناني هي مشكلة المودعين مع الحديث عن فجوة مالية أو خسائر بقيمة 76 مليار دولار، مع عدم اتضاح الرؤية لإمكانية حل أزمة المودعين وتأمين ودائعهم، مشيراً إلى تحديات أمام المصارف ومنها الإفلاس وكيفية إعادة أموال المودعين.
وأشار أبو شقرا إلى ضرورة وقف الهدر في المال العام وحل أزمة الكهرباء وتسديد مستحقات النفط العراقي ودعم القطاعات الإنتاجية ومنها القطاع الزراعي، إلى جانب حل أزمة العجز في الميزان التجاري، داعياً إلى بدء تطبيق الإصلاحات خاصة في القطاع العام وحل الأزمة في النظام المصرفي اللبناني مع التدقيق بأصول أكبر 14 مصرفاً في لبنان وفقاً لطلب صندوق النقد الدولي، وإعادة هيكلة المصارف على قواعد سليمة وتوزيع الخسائر على قواعد سليمة.
كما شدد على أهمية الاتفاق مع صندوق النقد الدولي ليس فقط من أجل إعطاء لبنان قرضاً بقيمة ثلاثة مليارات دولار، وهو يذهب بشكل أساسي لدعم موازنة الدولة ومالية الدولة وتمكينها من تحقيق الإصلاحات لمدة ثلاث سنوات، وإنما لما للاتفاق مع الصندوق من أهمية للبنان في سياق الالتزام بتطبيق الإصلاحات وهو ما يمكنه العودة إلى الأسواق المالية العالمية واستقطاب الاستثمارات الأجنبية بما يساهم في تحريك عجلة الاقتصاد.
(قنا، العربي الجديد)
