أعاد إعلان هيئة مكافحة الفساد الماليزية، اليوم الاثنين، عن نيتها مصادرة أصول بقيمة تتجاوز 700 مليون دولار من ممتلكات أسرة رجل الأعمال والسياسي الراحل دايم زين الدين تسليط الضوء على ملف قضايا الفساد الكبرى في ماليزيا، التي ظلت لعقود من أبرز التحديات التي تواجه اقتصاد البلاد ومؤسساتها. وتشتبه السلطات في أن دايم زين الدين، الذي توفي نهاية العام الماضي، أخفى جزءا من ثروته عبر شبكة من الشركات والحسابات في أكثر من عشر دول، بينها بريطانيا وسنغافورة وسويسرا وجزر كايمان. وبحسب تقديرات وكالة مكافحة الفساد وتقارير المنظمات الرقابية، تجاوز حجم الأموال المنهوبة في قضايا فساد رفيعة المستوى في ماليزيا 10 مليارات دولار خلال العقدين الماضيين، بينها مبالغ هُرّبت إلى الخارج، أو استُخدمت في شراء أصول وشركات وعقارات في أوروبا وآسيا. وفي ما يلي أبرز خمس قضايا فساد في السنوات العشر الأخيرة:
مصادرة تاريخية
بدأت هيئة مكافحة الفساد الماليزية (MACC) إجراءت مصادرة تاريخية كونها أول مصادرة تنفذ بعد وفاة شخصية سياسية بارزة. وتستهدف الإجراءات أصولا تقدر قيمتها بأكثر من 700 مليون دولار مرتبطة برجل الأعمال والسياسي الراحل دايم زين الدين (وزير المالية الأسبق) وزوجته وأفراد من عائلته في أكثر من عشر دول تشمل سنغافورة وبريطانيا وسويسرا وجزر كايمان. ودخل اسم دايم زين الدين بشكل مفاجئ إلى ملف التحقيقات بعد ظهوره ضمن وثائق باندورا 2021، التي كشفت عن امتلاك شبكة شركات خارجية وأصول عقارية سرية. وبناء عليه، طالبت (MACC) بالكشف عن تلك الأصول، وقد حصلت بالفعل على إذن قضائي لمصادرة برج "إلهام تاور" في كوالالمبور، إلى جانب حسابات مالية في سنغافورة وجيرسي والمملكة المتحدة.
ورغم أن دايم زين الدين توفي أواخر عام 2024، إلا أن السلطات تواصل تحقيقها، مشددة على أن المصادرة ترافقها إجراءات قانونية دولية تنسق مع أنظمة قضائية في أوروبا وآسيا. وبلغت قيمة الأصول المكتشفة في المملكة المتحدة نحو 178 مليون دولار، بينما يعتقد أن حسابات في سنغافورة وجيرسي تزيد تقريبا عن 397 مليون دولار. وإلى جانب برج "إلهام"، تستعد (MACC) للتحرك نحو دول أخرى مثل اليابان والولايات المتحدة لاستصدار أوامر قضائية مماثلة.
فضيحة الصندوق السيادي (1MDB)
تعد قضية الصندوق السيادي الماليزي المتهم فيها رئيس الوزراء الماليزي السابق نجيب عبد الرزاق واحدة من أضخم قضايا الفساد في آسيا، والمعروفة إعلاميا بفضيحة "1MDB". وكشفت التحقيقات والوثائق أن الصندوق السيادي الماليزي، الذي أنشئ عام 2009 لتعزيز التنمية الاقتصادية في البلاد، تحول لاحقا إلى شبكة معقدة من الاحتيال وغسل الأموال، وتجاوزت قيمة الأموال المنهوبة منه حاجز 4.5 مليارات دولار، بحسب وزارة العدل الأميركية. وفي يوليو/تموز 2020، أدانت محكمة ماليزية نجيب عبد الرزاق بتهم فساد وسوء استخدام السلطة، وحكمت عليه بالسجن مدة 12 عاما. غير أن ملفه القضائي ما زال مفتوحا، مع إسقاط بعض تهم غسيل الأموال مؤخرا، وسط مطالب شعبية بمواصلة المحاسبة.
ووفقا لبيانات حكومية، بلغ إجمالي ما جرى استرداده من الأموال حتى عام 2024 نحو 29 مليار رينغيت ماليزي ( نحو 6.9 مليارات دولار)، في إطار جهود ممتدة لاستعادة الأموال من مؤسسات دولية كبرى على رأسها بنك "غولدمان ساكس"، الذي دفع وحده تسوية بقيمة 3 مليارات دولار. وتشير التحقيقات إلى أن أموال الصندوق حُوّلت إلى حسابات سرية في عدة دول، من بينها سويسرا وسنغافورة وجزر كايمان والولايات المتحدة. وبرز في هذه القضية اسم رجل الأعمال الماليزي الهارب "جو لو"، الذي تتهمه السلطات بتنسيق عمليات تحويل الأموال بالتواطؤ مع مسؤولين بارزين في الحكومة الماليزية.
وفي أغسطس/آب 2024، أدانت محكمة سويسرية اثنين من المسؤولين السابقين في شركة "PetroSaudi" بتهم غسل أموال واحتيال، في إطار القضية نفسها، بعد إثبات تورطهم في الاستيلاء على 1.8 مليار دولار من أموال الصندوق. وبحسب وزارة المالية الماليزية، فإن الاستردادات تضمنت 1.2 مليار دولار من الولايات المتحدة خلال عامي 2022 و2023، إلى جانب 156 مليون دولار إضافية في عام 2024. كما صادرت السلطات أصولا محلية، من بينها برج "إلهام تاور" في كوالالمبور، المملوك لعائلة نجيب. وكان لانكشاف الفضيحة دور كبير في سقوط حكومة نجيب عبد الرزاق في انتخابات 2018، وسط غضب شعبي واسع من تغلغل الفساد في مؤسسات الدولة. كما أدت القضية إلى مراجعة نظام الرقابة المالية في ماليزيا، وإنشاء آليات رقابية جديدة لمتابعة أداء الصناديق السيادية.
فضيحة هيئة الأراضي الفيدرالية (FELDA)
شكلت القضية التي طاولت هيئة تنمية الأراضي الفيدرالية (FELDA) واحدا من أكثر ملفات الفساد تأثيرا على المجتمعات المحلية في ماليزيا. وبحسب تقارير رسمية، فقد تجاوز إجمالي الخسائر الناجمة عن صفقات مشبوهة ما يقرب من 1.2 مليار رينغيت ماليزي (نحو 255 مليون دولار)، نتيجة عمليات اقتناء شركات وأصول بأسعار مضخّمة من دون دراسات مناسبة. بدأت التحقيقات في هذه القضية في يونيو/حزيران 2017، عندما داهمت (MACC) مقر الشركات التابعة لهيئة الأراضي. وشهدت السنوات التالية صراعات قضائية بين هيئة الأراضي وبعض الممولين والمستثمرين، ما أبطأ من خطط الإصلاح والتحول الزراعي. لكن في المقابل، استطاعت الحكومة استرجاع جزء من الأموال عبر تسويات مدنية، ومن ذلك استرداد بعض الوحدات العقارية وسيولة نقدية تقدر بملايين الدولارات.
وفي العام 2020، وجهت المحكمة تهما رسمية لرئيس الهيئة السابق محمد عيسى عبد الصمد ، وعدد آخر من كبار مسؤولي الهيئة، تتعلق بالاحتيال واختلاس الأموال. وقد رفضت في عدة أحكام أولية بعض التهم، وجرى الطعن في أخرى أمام محكمة الاستئناف. إلا أن التحقيقات المدنية لا تزال مستمرة. وأثارت القضية جدلا بشأن الآليات الرقابية والشفافية في تشغيل الهيئات الحكومية ذات الطبيعة شبه التجارية.
مشروع نفق بينانغ
يتصدر مشروع نفق بينانغ الذي يربط جزيرتي بينانغ وبرتاو، بتكلفة قدرها 6.3 مليارات رينغيت (نحو 1.5 مليار دولار)، قائمة التحقيقات بسبب شبهات فساد تخص تقديم رشى مقابل تأمين عقود لمقاولين مرموقين. وأوضح مكتب مكافحة الفساد الماليزي أن أحد المعنيين - وهو وزير سابق في حكومة ولاية بينانغ - اتهم بطلب رشوة بمبلغ 20 مليون رينغيت (4.7 ملايين دولار) من أحد المقاولين في عام 2017. وطاولت التحقيقات وزير الولاية السابق ليم جوان إنغ، وهو زعيم سياسي معروف وعضو في حزب التحالف الماليزي الديمقراطي عندما كانت الحكومة الفيدرالية تحت قيادة المعارضة. وقد جرى استدعاؤه أمام المحكمة العليا بماليزيا، ووُجّهت إليه تهم رسمية تشمل أعمال إساءة استعمال السلطة وتلقي رشى. وطوال سلسلة الجلسات، أنكر ليم جميع الاتهامات، واعتبرها جزءا من حملة سياسية ضده.
وصاحبت التحقيقات تسريبات لوثائق داخلية تظهر تحركات مالية مشبوهة نُفّذت قبل الانتخابات المحلية في الولاية، وتضمنت طلبات تحويلات من المقاولين. وقد أكد مكتب MACC أن 15 وثيقة دعمت الملف، ومع ذلك، لم تصدر المحكمة أحكاما نهائية حتى نهاية 2024، ولا تزال القضية في مرحلة الاستئناف. ويواجه المشروع حاليا مراجعة لإطار العطاءات والمناقصات للتحقق من تطبيق معايير الشفافية، بما في ذلك نشر عقود المقاولين والمبالغ المدفوعة. ويطالب ناشطون من المجتمع المدني بإنشاء هيئة مستقلة لمراقبة تنفيذ هذا المشروع وغيره من مشاريع البنية التحتية الكبرى في ماليزيا.
مشروع سفن الأمن الساحلي (LCS)
يعد مشروع سفن الأمن الساحلي (LCS)، الذي أطلق عام 2014 بتكلفة أولية تبلغ 9 مليارات رينغيت (نحو 2.1 مليار دولار)، أحد أبزر مشاريع الدفاع البحري في ماليزيا لفرض سيطرة بحرية ومراقبة على حدودها. ومع ذلك، تحول بسرعة إلى قضية فساد كبرى مع اكتمال تنفيذ عدة وحدات من دون التسليم في الوقت المحدد وتورط قياديين حكوميين في ارتشاء ملايين الرينغيت مقابل إبرام عقود صفقات جزئية. بدأت تحقيقات السلطات الماليزية بقيادة (MACC) منذ 2017، بعد تقارير بوجود تجاوزات في المناقصات ومحسوبية واضحة لموانئ محلية وشركات تصنيع محددة. وورد أن بعض تلك الشركات دفعت عمولات غير قانونية وصلت إلى 600 مليون رينغيت (نحو 140 مليون دولار) لمسؤولين من وزارة الدفاع. وجرى توقيف بنسون تانغ، المدير السابق لبعض وحدات المشروع، بتهم ارتشاء في 2019. وفي يونيو/حزيران 2022، أُوقف خمسة مسؤولين كبار من وزارة الدفاع وشركة "Boustead Naval Shipyard"، المشغلة المشروعَ، إثر إغلاق عقود فرعية من بدون منافسة عادلة.
وأصدرت الحكومة الماليزية في 2023 تقريرا مؤقتا كشف عن تفاوتات في التكاليف بين مراحل المشروع وتضخمٍ فيها، مقارنة بالتقديرات الأولية. وأشارت إلى أن تكلفة الوحدة البحرية قد ارتفعت من 9 مليارات إلى أكثر من 11 مليار رينغيت (نحو 2.6 مليار دولار)، فيما أظهرت مستندات شراء مواد مقابض وسقالات وكابلات ارتفاعات أسعار لافتة. ونتيجة لهذا الفساد الإداري، تم إلغاء ثلاث وحدات كانت جاهزة للإطلاق بعد 2024 وحتى فُتحت تحقيقات مستقلة. وأنشئت لجنة برلمانية لمراجعة التعاقدات، فيما التزم وزير الدفاع بتجميد دفعات المشروع لحين الانتهاء من الفحص القضائي.
