أنطوان كرباج... الإشارات والتحولات في المسرح اللبناني

منذ ٣ ساعات ٩

لا يمكن اختصار مسيرة الممثل اللبناني أنطوان كرباج (1935-2025) ببضعة أسطر، فهو الرجل الذي هزَّ خشبة المسرح اللبناني لأكثر من ستة عقود، تاركاً بصمة لا تُمحى في فن التمثيل، حيث تجسّدت في شخصيته قدرة استثنائية على الإقناع والاحتراف.

أنطوان كرباج وشخصية الشرير والظالم

عند استعادة أدوار أنطوان كرباج، سواء في المسرح أو على الشاشة الصغيرة، يبرز تميزه في تقديم شخصيات الشرير والظالم بمهارة عالية، مستخدماً جميع المؤثرات التعبيرية، ليعود في الواقع مناهضاً للظلم والعنف بعيداً عن الأضواء. هذه الحرفية صنعت منه ممثلاً استثنائياً لم يعرف الفن اللبناني نظيراً له، حيث ظل حتى سنواته الأخيرة، قبل الاعتزال الإجباري، بسبب تدهور حالته الصحية، مبدعاً واثقاً، لكن هشّاً أمام قسوة الحياة.
قبل خمس سنوات، وبعد انفجار مرفأ بيروت عام 2020، انتشرت شائعة وفاته، إلا أن نجله الرسام مازن كرباج سارع إلى نفيها، رغم معاناة والده الصحية التي دفعته وعائلته إلى اتخاذ قرار السكن في دار للرعاية. السنوات الأخيرة من حياة "الملك" كانت قاسية، إذ عانى من مرض ألزهايمر حتى وفاته.
درس كرباج التاريخ قبل أن يدخل عالم التمثيل، وكان من الأصوات القليلة في لبنان التي نادت بحفظ هذا التاريخ من عبث التجار، خاصة بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية وإعادة إعمار وسط بيروت. المقربون منه يعلمون أن تحولات ما بعد الحرب كانت الأشد إيلاماً له، وجعلته يغرق في التأمل بأدوار الظلم التي أداها على المسرح والشاشة، لينكفئ بعدها على نفسه ويدخل في عزلة انتهت بتراجع حالته الصحية.
لا يمكن إنصاف أنطوان كرباج من خلال السير الذاتية المنتشرة على الإنترنت، فرجلٌ بحجم إرثه الفني لا يمكن اختزاله في بضعة سطور. فقد اجتهد حتى سنواته الأخيرة، وكان ركيزة أساسية في المسرح اللبناني. منذ دراسته فن التمثيل، اتجه إلى المسرح وأثبت نفسه أحد أعمدته، بدءاً من الستينيات.
نجح في اجتياز تجربة مسرح الرحابنة بجدارة، متفوقاً في أدواره التي جسد فيها شخصيات "الملك" و"الوالي" و"السلطان"، ليصبح من أكثر الممثلين إقناعاً في تجسيد أدوار السلطة والبطولة. لم يقتصر تألقه على المسرح، بل امتد إلى الدراما التلفزيونية، حيث أصبح "بربر آغا"، الشخصية التي التصقت باسمه بعد أدائها في المسلسل الشهير الذي كتبه أنطوان غندور، وأخرجه باسم نصر عام 1979.
إلى جانب "بربر آغا"، قدم كرباج دور البطولة في مسلسل "ديالا" عام 1976 مع هند أبي اللمع، من إخراج أنطوان ريمي على شاشة تلفزيون لبنان، كما لعب دور "المفتش" في مسلسل "لمن تغني الطيور" في العام نفسه، مع نهى الخطيب، بإخراج إيلي سعادة. ولم تقتصر أدواره الدرامية على السبعينيات، فقد شارك في مسلسل "أوراق الزمن المر" عام 1996 إلى جانب منى واصف وجوليا بطرس وعمار شلق، وكذلك في مسلسل "عشتار" عام 2004 مع أمل عرفة وعبد المنعم عمايري، بالإضافة إلى أدوار أخرى بارزة، مثل شخصية "جحا الضاحك الباكي"، التي عُرفت عند الجمهور العربي.
كما قدّم أنطوان كرباج أربع مسرحيات عالمية بارزة، أضافت إلى مسيرته عمقاً وثراءً: "مكبث" لشكسبير، و"الذباب" لجان بول سارتر، و"أنطيغونا" لسوفوكليس، و"القصر" لفرانز كافكا. وتميز بصوته الجهوري القوي، الذي أضفى مزيداً من المهابة على أدواره، خاصة في المسرحيات التاريخية مثل "بترا" للأخوين رحباني، حيث لعب دور القائد الروماني المستبد "باتريكوس بالما" في مواجهة صوت العدالة والخير الذي مثلته فيروز.

تطور المسرح اللبناني

لم ينجرف كرباج إلى سوق الاستهلاك الفني، وظل وفياً لفنه، حتى إن أعماله الأخيرة مع مسرح منصور الرحباني كانت تستحق أن تكون ختام مسيرته. لم يبحث عن الأضواء، ولم يكن نجم الصالونات أو الجوائز، بل كان فناناً مخلصاً لدوره، متفانياً في دراسة شخصياته، حتى اختار الابتعاد عن الأضواء قبل خمس سنوات، حين انتشرت أخبار عن إقامته في دار للمسنين. خرجت عائلته يومها ببيان أكدت فيه أن وضعه الصحي يستدعي رعاية خاصة، خصوصاً مع تقدّم مرض ألزهايمر.

رحلة كرباج لم تكن مجرد مسيرة فنية، بل كانت انعكاساً لمراحل عدة من تطور المسرح اللبناني، فقد تفاعل مع كبار المخرجين والمؤلفين، وساهم في تشكيل وعي الجمهور المسرحي من خلال أدائه الصادق والعميق. كان يعتبر أن المسرح هو الأداة الأكثر تأثيراً في إيصال القضايا المجتمعية والسياسية، ولم يتوانَ عن تقديم أدوار تتحدى الظلم والاستبداد، مما جعله فناناً ذا موقف، لا مجرد مؤدٍّ للأدوار.
أثره لم يتوقف عند جمهوره، بل امتد إلى أجيال من الممثلين الذين تتلمذوا على أدائه، واستلهموا من قدرته على التماهي مع شخصياته. صوته الرنان وحضوره الطاغي جعلاه أحد أبرز الأسماء التي ارتبطت بالمسرح اللبناني الأصيل.
يرحل أنطوان كرباج عن تسعين عاماً، تاركاً صفحة خالدة في تاريخ المسرح اللبناني، فهو أحد أعمدته الكبار. تظل مسيرته شهادة على الإبداع، والاحتراف، والقدرة على تطويع الموهبة لتتجاوز حدود الدراسة الأكاديمية، وتصنع تاريخاً فنياً لا يُنسى. رحيله يترك فراغاً في المشهد الفني، لكنه يبقى حاضراً في ذاكرة كل من تابع أعماله وتأثر بإبداعه الفريد.

قراءة المقال بالكامل