عنوانا الفيلم، باللغتين العربية والإنكليزية، يعكسان لحظة لبنانية، لا تزال تحفر في أعماق كثيرين وكثيرات، والحفر "يُحصّن" الجرح مانعاً إياه من أنْ يندمل. فوثائقيّ النمساوي ياكوب كارل ساور والألماني نيكولا فون لِفِّرن، المنشغل باللاحق على التفجير المزدوج لمرفأ بيروت (4 أغسطس/آب 2020)، يغوص في ذوات خمس شخصيات أساسية، متقاربة العمر، وينفتح على مأساة جماعة، تظهر (المأساة) في سياق كلامٍ، أو داخل لقطات، أو في كادرات تُغلِّف الجرح العام في جرح فردي.
في مقابل العنوان الإنكليزي، "أنْ تُغلق عينيك وترى النار (To Close Your Eyes And See Fire)"، هناك عنوان عربيّ لن يكون أقلّ حدّة من التكثيف الدرامي والبشريّ لحالة فردٍ: "أنْ تُبصر ناراً" (2024). فإغلاق العينين دربٌ إلى مشاهدة تلك النار التي يُبصرها كلّ مُصاب بطلقةٍ من التفجير المزدوج ذاك، إنْ تكن الطلقة مباشرة في الجسد، أو مواربة في الروح والنفس. والوثائقي معنيّ أكثر بالروح والنفس، رغم أنّ هناك إصابة مباشرة تخطف مراهقاً من عائلته، المُقيمة في حزنٍ يقترب من حِدادٍ، من دون بلوغه كلّياً.
أندريا فهد وآية المصطفى وجمال علاء الدين ونبيلة علاء الدين حمادة وسليم معوَّض: خمسة لبنانيين ولبنانيات سيكونون نماذج لأنفسهم/أنفسهنّ في هذا المُصاب، مع أنّ ما يعتمل فيهم/فيهنّ غير منفضٍّ عمّا يعتمل في آخرين وأخريات. قول هذا متأتٍّ من رغبة ذاتية في عدم التعميم، فلكلّ فردٍ اختباره ومعاناته، و"أنْ تُبصر ناراً"، باختياره هؤلاء نواة أساسية للنصّ البصري، مُكتفٍ بمرافقة كلّ واحد منهم/منهنّ في مسارٍ يمتد ثلاثة أعوام، بدءاً من "الذكرى الأولى" للتفجير المزدوج. اختيار هؤلاء غير حاجبٍ مُصاب آخرين وأخريات، لكنّه متمكّن من كشف أهوال، لا شكّ في أنّها حاضرةٌ في يوميات هؤلاء الآخرين والأخريات.
بهدوء يخفي آلاماً وغلياناً وغضباً وقهراً، يتابع الثنائي كارل ساور وفون لِفّرن مساراً حياتياً يومياً لخمسة أفرادٍ، مُصوّراً أفعالهم/أفعالهنّ: ترميم منزل بعد التفجير المزدوج؛ علاج فيزيائي لجسدٍ يتألم كما الروح والنفس؛ زيارة قبرٍ مع دموع شبه مختفية؛ إقامة في مرآب مبنى كبير، يطلّ على موقع الجريمة؛ مشاركة في تظاهرةٍ يُراد لها التذكير بالوجع والمطالبة بالمحاسَبة المغيّبة إلى الآن؛، قلق يتكشّف فعله بأصوات مُتّصلين/متّصلات بمعالِجة نفسية (ياسمين)، تستمع عبر الهاتف إلى ما فيهم/فيهن من تمزّق وخراب.
كلامٌ يُقال عن نتاج ذاك التفجير المزدوج، وينفتح على أساسيات عيشٍ في كابوسٍ ضاغط: السفر، أي الخروج من هذا الحصار الخانق، وإنْ يكن المكان الآخر معطوباً بدوره، بسببٍ حربٍ مندلعة فيه بعد أقلّ من عامين على المأساة البيروتية (حرب أوكرانيا، 24 فبراير/شباط 2022).
في الفقرات الأخيرة من "أنْ تُبصر ناراً"، يتمشّى شابٌّ وصديقته في مكانٍ قريبٍ من المرفأ. يسألها فجأة: "أتشعرين بأنّه يُمكنك السفر؟ أنْ تسافري نهائياً وتتركين كلّ شيء (هنا)؟". تُجيبه: "لا أعرف. أشعر أنّك (حين) تُغلق عينيك وترى ناراً. نار الناس، والتغيير، هل يخطر ببالك أنْ تبقى؟ لكنْ أيضاً، (هناك) النار التي تجرف كلّ شيءٍ أمامك". الرسّام سليم، الباحث عن منفذٍ لتنفّس وإنْ في أوكرانيا، يُغادر منزله وشارعه ومدينته، متوجّهاً إلى المطار (لن تكون أوكرانيا وُجهته، بل باريس). أهل محمد، المقتول بالتفجير المزدوج، يجهدون في إكمال ذاك العيش المعطّل. أندريا وكتفها المعطوبة والمؤلِمة.
"مُهدى إلى ضحايا انفجار مرفأ بيروت"، يُكتب في خاتمة فيلمٍ، يوثِّق معاناة وجرحاً وخراباً ومتاهةً، بشفافية سينمائية تُتيح لأفرادٍ أنْ يقولوا بعض ألمٍ وقهرٍ، وفي قول هذا بعض الدمع. بهذا، يتحرّر "أنْ تُبصر ناراً" من تقليدٍ توثيقي، يتمثّل بلقاءات مباشرة مع شخصيات معيّنة. فالكاميرا (جاكوب كارل ساور) تتحوّل إلى عينين تلتقطان ما يُشاهَد، وتُسجّلان ما يُسمَع، بدلاً من أنْ "تجلس" أمام من يتكلّم ويسمع. سليم، فنّان الطبخ أيضاً، يدعو أصدقاء وصديقات له إلى منزله المُرمَّم لعشاء (أيكون الأخير له معهم/معهنّ؟)، يُصبح (العشاء) حيّزاً لنقاشٍ عن بلدٍ ومدينة وناس. المسرح علاجٌ أيضاً، أو محاولة خلاص. الرقص، إنْ يكن في غرفة، أو على صخرة أمام بحرٍ.
هذا كلّه مُكثّف للغاية، فالتوليف (ماتياس فْرايتز) كفيلٌ بتمكين السياق من توثيق حكايات من دون ثرثرة وبكائيات.
