فاجأت التظاهرات التلقائية في شمال غزّة وجنوبها كثيرين، ففي نهاية المطاف، أصبح فلسطينيو غزّة رمزاً للمقاومة والتضحية على مدار 18 شهراً من الهجمات الإسرائيلية الشرسة والعشوائية التي لم تستثنِ المدنيين والصحافيين وعمّال المطبخ والطواقم الطبية.
تجب الإشادة بهذا الشعب البطل، ولكن يجب ألّا يُنسى أبداً أنهم بشر وليسوا سوبرمان، فهم كأي مخلوق بشري يتألمون عندما يُجرَحون، ويحزنون عندما يموت أحباؤهم، ويغضبون عندما يواجهون ظلماً مستمرّاً لا يبالي به العالم.
تأخّر توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة وقتاً طويلاً جدّاً. أخيراً، تمكّن الغزّيون الذين نُقلوا قسراً إلى خيامٍ في الجنوب من العودة شمالاً. وجد كثيرون منازلهم مدمّرة جزئيّاً أو كلّياً. بدأوا في تنظيف منازلهم وإصلاحها قدر استطاعتهم، في انتظار وصول المعدّات الثقيلة الموعودة في المرحلة الأولى لإزالة الأنقاض الثقيلة، وانتشال بعض الجثث غير المدفونة ودفنها بشكل لائق. ثم ما إن بدأوا باستعادة بعض مظاهر الحياة، حتى انتهى وقف إطلاق النار فجأةً وبشكلٍ غير متوقع بغارة جوية ضخمة في ساعة السحور فجر 18 مارس/ آذار الجاري، أودت بحياة 400 فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء، فيما زعمت إسرائيل أن مقصدها كان اغتيال قادة حركة حماس من المستوى المتوسط.
ومع ذلك، انتظر كثيرون على أمل أن يتحرّك الرعاة الأميركيون (وقطر ومصر) إلى وقف إطلاق النار، الذي نُسب إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب الفضل فيه، ضد أي انتهاك إسرائيلي واضح. وأعقبت الهجوم جريمة حرب غير مرخصة، تمثلت في حصار إنساني بمنع الغذاء والمساعدات الإنسانية منذ الثاني من مارس/ آذار الجاري، حتى عمليات الإنزال الجوي الأردنية الرمزية لم يُسمح لها بإسقاط القليل من الغذاء المطلوب.
تردّد الأميركيون حتى في الاعتراف بأن حليفهم الإسرائيلي المحبوب هو الذي انتهك اتفاق وقف إطلاق النار، بل لاموا "حماس" لرفضها اقتراح المبعوث الأميركي
يبدو أن قادة "حماس" حاولوا تقديم تنازل بسيط بالموافقة على إطلاق سراح خمسة أميركيين، أحدهم شخصٌ لم يُقتل في غارات جوية إسرائيلية، لكن ذلك زاد من غضب الإسرائيليين الذين شعروا بأن الأميركان قد يتخلون عنهم إذا استعادوا مواطنيهم الأميركيين/ الإسرائيليين المزدوجين.
تردّد الأميركيون حتى في الاعتراف بأن حليفهم الإسرائيلي المحبوب هو الذي انتهك اتفاق وقف إطلاق النار، بل لاموا "حماس" لرفضها اقتراح المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف الإفراج عن خمسة محتجزين أحياء، بمن فيهم الأميركي. وفي حديثه مع الإعلامي تكار كارلسون، ألقى ويتكوف باللوم كله على "حماس" بدعم، إلى جانب الرئيس ترامب، السياسة العدائية الوحشية الإسرائيلية بشكل كامل.
وقد شكّل قرار الجناح العسكري لحركة حماس برد رمزي على استمرار انتهاكات إسرائيل لوقف إطلاق النار بإطلاق صاروخ من شمال غزّة فرصة كانت تنتظرها حكومة نتنياهو المجرمة (حسب القانون الدولي)، حيث رد الإسرائيليون بطريقة قاسية، وأمروا أهالي بيت لاهيا في شمال القطاع بمغادرة منازلهم مرّة أخرى. وأدى هذا التطور إلى رد فعل غاضب هذه المرّة ضد الإسرائيليين الذين تجاهل العالم وحشيتهم وعقابهم الجماعي اللاإنساني، ولكن أيضاً ضد قادة "حماس" لعدم إدراكهم أنهم بحاجة إلى الانحناء جزئيّاً في ظل عاصفة بهذا الحجم تضرب المنطقة. حاول بعضهم لوم جهات خارجية بأنها وراء التظاهرات، ولكن شخصيات محلية في بيت لاهيا لم تقبل هذا، فقد دحضوا، في بيان لهم، الادّعاءات أن الاحتجاجات لم تكن حقيقية، أو أنها بوساطة فريق محمد دحلان أو قيادة السلطة الفلسطينية في رام الله، مؤكدين أن الاحتجاجات ضد إسرائيل وحماس حقيقية.
من المهم ألا يعتبر الإسرائيليون والعالم الاحتجاج المنتقد لحركة حماس علامة على ضعف المقاومة الفلسطينية
ومع أن الاحتجاجات، بما فيها تلك التي تنتقد "حماس"، كانت حقيقية بالفعل، من المهم ألا يعتبر الإسرائيليون والعالم هذا الاحتجاج علامة على ضعف المقاومة الفلسطينية، أو أن الجميع في غزّة أصبحوا ضد "حماس". وبطبيعة الحال، على قيادة الحركة أن تدرك أنها بحاجة إلى تقييم قراراتها بنفسها، وأن تدرك توازن القوى الحالي بعد التغييرات في واشنطن وبيروت وعواصم إقليمية وعالمية أخرى غيّرت من المعادلة السابقة.
تجب إعادة وقف إطلاق النار فوراً وبشكل مراقب، وإنهاء الحرب والإفراج عن الأسرى، وتوفير الإمدادات الغذائية فوراً. كما لا بد أن يتبع ذلك تحرّك قوي لإعادة الإعمار وعملية سلام سياسية. ولا يزال كثيرون في العالم يطالبون بإنهاء جرائم الحرب الإسرائيلية، وعلى الدول العربية بذل مزيد من الجهود، وعلى المجتمع الدولي الإصرار على تطبيق قوانين الحرب التي تشترط، في حدّها الأدنى، تجنّب الهجمات على المدنيين ورفض سياسات التجويع الجماعي. فهل من مستمع إلى صرخات غزّة. من الضروري أن يتذكّر العالم أن الفلسطينيين فيها بشرٌ لهم الصفات الإنسانية نفسها، والألم نفسه، والمشاعر نفسها، والآمال نفسها؟ يجب ألا يتأخّر وقت إنهاء هذه الحرب يوماً واحداً أكثر.
