تظهر صفاء الخَنُّوسي، الكاتبة الهولندية الشابة ذات الأصول المغربية (30 عاماً) بروايتها الأولى "أوروبا"، الصادرة باللغة الهولندية عن دار نشر "Pluim"، وتلفت الأنظار بقوة، خاصّة بعد فوزها بجائزة "بون" الأدبية في دورتها الرابعة، في شهر مارس/آذار الفائت في مدينة لوفين البلجيكية.
عملت الخنوسي لمدّة سبع سنوات على روايتها، والتي يصعب تلخيص فحواها بسهولة بسبب شخصياتها العديدة وأحداثها التي تنتقل من أمستردام إلى باريس، ثمّ إلى تونس فالدار البيضاء، ثم عودة إلى أمستردام وباريس مجدداً. الخيط الرئيس في الحبكة هو حكاية الفنانة المغربية اليهودية سالومي أبرجيل، المعروفة أيضاً باسم سلمى. في الفترة التي تسبق إقامة معرض جديد لأعمالها في غاليري تملكه السيدة هانا ميلجر في أمستردام، تختفي سلمى من دون أن تخبر أحداً، باستثناء رسالة إلى صاحب حانة الوجبات الخفيفة وصديقها القديم حبيب لابيض، الذي يكلّف الفتاة التي تعمل في حانته هند العريان بالذهاب والإقامة في شقة سالومي، كي لا تلاحظ مالكة الغاليري غيابها المفاجئ.
من فضول هند العريان - التي غالباً ما تكون تحت تأثير الكحول والمخدرات - أمام لوحات سالومي ومتعلقاتها في الشقة، يبدأ القارئ الغوص في عالم "أوروبا" المتعرّج والمتشابك، كما ترسمه الخنوسي. وفيه يكتشف أن سالومي تعرّضت للتعذيب في أحد السجون المغربية في ثمانينيات القرن الماضي، خلال ما عُرف بـ "سنوات الرصاص"، والتي وقعت في عهد الملك الحسن الثاني (1929 - 1999).
تقديم صورة واقعية عن حياة المهاجرين والمهمّشين في أوروبا
ومن خلالها أيضاً، يتعرّف القارئ على بقية شخصيات الرواية؛ وهم مجموعة متنوّعة ومتباينة من المهاجرين المهمّشين الضائعين في ثنايا المدن الأوروبية، بدءاً من السجّان الذي كان يشرف على تعذيب سالومي في سجنها المغربي، يوسف السلاوي، والذي فوجئت به يقف ذات ليلةٍ على باب شقّتها في أمستردام، ما دفعها إلى الهرب إلى أحد أصدقائها في تونس، مروراً بابن سالومي إراد الذي أنجبته في السجن، وهو الآن يدير حانة "لو سوترين" الغامضة في باريس، والتي جعل منها ملاذاً لجماعته من المنبوذين والمتسكعين والشعراء ومدمني الكحول وطالبي اللجوء.
تصف الخنوسي هذه الشخصيات كلها قائلةً: "هؤلاء الذين ما زالوا يعصرون ملح البحر الأبيض المتوسط من أرجل سراويلهم، وأولئك الذين ينتظرونها، هؤلاء الذين يدفئون أياديهم في عتمة الليل الكثيف قابضين على بطاقات هوياتهم المهترئة، وأولئك الذين يعلِّمون أولادهم فن الخيانة بنبرات تآمرية".
تنسج الروائية حول شخصيتها الرئيسية شبكة مذهلة من القصص والحكايات والتلفيقات السردية التي تدخل القارئ في قصص جديدة، لتنقله من بلد إلى آخر، ومن شخصية إلى أخرى، وكلّها شخصيات تحمل عبء الماضي بطريقتها الخاصة، لكن لديها أيضاً الرغبة في صنع شيء خارج المألوف. ومع التنقلات الزمنية المستمرة في الأحداث، من أعوام الثمانينيات في المغرب وصولاً إلى وقتنا الحاضر في أمستردام، تحرص الروائية على تجريد الأماكن من خصوصيتها، فسواء كنا في تونس العاصمة أم باريس، يصبح المكان في الرواية "الدائرة الحادية والعشرين"، وهو مكان لا وجود له، ولكنه يُوصف بأنّه: "نظامٌ دائم من الأقبية والحدائق والغرف العلوية والأنفاق والجسور ومواقف السيارات والحانات وزوايا الشوارع والحارات والأزقّة الخلفية التي يجد الباحث المحظوظ نفسه فيها هارباً، ولو لفترة وجيزة، من مسار الحياة العادية المصيري والمتوقع".
ولأن أغلب شخصيات رواية الخنوسي لها جذورٌ خارج القارة العجوز، وتحديداً في المغرب وتونس والجزائر، لا يزالون عالقين في علاقة معقّدة مع أوروبا، قوامها الحبّ والنفور في الآن نفسه. تقول سالومي: "أوروبا مكان لا يرحم، لقد كانت كذلك منذ آلاف السنين، عاش أجدادي وهم يعتبرونها كارثة، ولطالما فكرنا: أي بؤس هناك على الجانب الآخر من البحر". أما يوسف السلاوي، جلاد سالومي الذي يحاول مطاردتها في أمستردام، فيقارن حال أوروبا بالحالة المتهالكة لعيادة الطبيب العام: "مستودع عفن حيث حفنة من المدمنين والأشخاص الذين لا يملكون أوراقاً، تُخلع ضروسهم وتخاط جروحهم مقابل مبالغ تافهة، بينما يتم الاستيلاء على أرواحهم كالبلهاء".
ولدت صفاء الخنوسي عام 1994 في طنجة بالمغرب، وانتقلت مع عائلتها إلى هولندا حين كانت في الرابعة من عمرها. تقول في أحد حواراتها الصحافية: "جئت من عائلة تتسلّى بالحكايات والنكات والثرثرة، حتى التورط في الابتزاز العاطفي، لقد تعلّمت ركوب الدراجة الهوائية على سبيل المثال رغبة مني في الاستماع إلى بقية القصص التي كان أبي أو أمي يبدأان بحكيها لي، ثم يمتنعان عن إكمالها حتى أنفّذ ما يطلبان".
ينعكس هذا التقليد الشفهي بوضوح في الرواية، والتي أصرت الكاتبة أن يُكتب عنوانها "Oroppa" بالمنطوق العربي لكلمة Europe، حيث تتداعى القصص في متاهة من الأحداث والمصائر المتشابكة. إلا أن الكاتبة الشابة تبدي براعة في تطويع اللغة الهولندية للإيقاع الطويل الدائري للجملة في اللغة العربية، التي تعلّمتها بين القاهرة والرباط، وتدرِّسها الآن في أمستردام. كذلك لم يأت تركيز الكاتبة على فترة "سنوات الرصاص" في المغرب من فراغ، بل لأنّها تعمل حالياً على أطروحة دكتوراه بـ"جامعة أمستردام" عن السجون المغربية في ظلّ نظام الملك الحسن الثاني.
وتُعدُّ جائزة "بون" التي فازت بها الرواية من أبرز الجوائز الفلمنكية للأدب المكتوب باللغة الهولندية، وفيها يختار جمهور القرّاء العمل الفائز بنظام التصويت؛ وهو ما يفتح الباب على وسعيه أمام رواية الخَنُّوسي للمنافسة على جائزة "ليبريس" الأدبية الهولندية، والتي ستُعلَن في 19 أيار/مايو المقبل.
وجاء في بيان لجنة تحكيم جائزة "بون" أن "الخَنُّوسي تقتحم المشهد الأدبي للغة الهولندية مع باكورتها الأولى، مفتتحةً عوالم خفية ومجهولة أمام القارئ: المقاهي التي تضمُّ مشردين وصعاليك ولاجئين يثرثرون وسط الأجواء المُعبأة بالدخان، الشوارع المهجورة والشقق الرطبة وزنازين السجون؛ كلّها أماكن تسكنها شخصيات استثنائية، بطريقة تجعلنا نحن القرّاء غير قادرين إلا على الاستسلام أمام لغة الخَنُّوسي الغنية، لنغوص بكامل وعينا في عالَم المهاجرين والمهمّشين. صوت الخنُّوسي في هذه الرواية يخبرنا أنّه سيكون أكثر قوة وطموحاً في اللغة الهولندية".
شخصيات لها جذورٌ خارج أوروبا، في المغرب وتونس والجزائر
يأتي بيان لجنة تحكيم الجائزة مؤكداً النجاح النقدي الذي حققته الرواية منذ ظهورها، إلى درجة دفعت صحيفة "ده فولكس كرانت" الهولندية إلى اختيار الخنوسي لتكون الـ"موهبة الأدبية" الأهم لعام 2025. وقد اعتبر الناقد الهولندي توماس دي فين، أن رواية "أوروبا" تشكّل "بداية مدوية واقتحاماً غير متوقّع لكاتبة من العيار الثقيل". كذلك أشارت صحيفة "هيت بارول" الهولندية إلى "رياح جديدة في الأدب الهولندي"، فيما كتبت صحيفة "ده ستاندارد" البلجيكية: "أخيراً رواية نضيع فيها".
وعقب فوزها بالجائزة، صرحت الخنوسي لوسائل إعلام هولندية، قائلةً: "أردتُ أن أكتبَ رواية عن المهمّشين والمنفيّين والفوضويّين والمنبوذين، عن الروابط التي لا تزال تربط بينهم وبين المجتمعات الأوروبية التي لجؤوا إليها، وأيضاً عن المسافات التي تفصلهم عن المجتمعات ذاتها. أردت أن أكتب عن "الفاشلين" بالمعنى السياسي، أولئك الذين اختاروا ألا يكونوا عاديين أو طبيعيين، من دون أن يروا في أنفسهم ضحايا، أو يلعبوا دور الضحية، بل اختاروا مقاومة النظام الطبيعي وعاشوا حيواتهم بالطريقة التي أرادوها".
تؤكد الخنوسي أن روايتها "أوروبا" هي محاولة لفهم العلاقة المعقّدة وتعريفها بين المهاجرين والمجتمعات الأوروبية، وكيف يمكن لهذه العلاقة أن تكون مصدراً للإلهام والإبداع، رغم التحديات والصعوبات التي تواجهها. ومن خلال شخصيّاتها المتنوعة والمتباينة، تسعى إلى تقديم صورة واقعية ومؤثّرة عن حياة المهاجرين والمهمّشين في أوروبا، وكيف يمكن لهذه الحياة أن تكون مليئة بالأمل والإصرار على تحقيق الذات.
* شاعر ومترجم مصري
