كل يوم يزداد رداء الزيف الذي يرتديه القضاء الدولي كاشفاً عن كذب ادعاءات المجتمع الدولي الحرص على الحقوق والحريات. فمثلما لا تزال ملفات القضايا الجنائية والجرائم الصارخة في ليبيا بيد المحكمة الجنائية الدولية مفتوحة بدون أن يتحقق فيها شيء منذ سنوات، لا تزال الشخصيات المرتبطة بتلك الجرائم تتنقل وتظهر متى شاءت، بدون أن تطاولها يد تلك العدالة التي تمتد حيناً وتنكمش أخرى بحسب مصالح من يحركها.
على مدار الأيام الماضية، كان الليبيون يتابعون حدثين متزامنين، الأول يتعلق باحتجاز السلطات الإيطالية قائد مليشيات بارزاً في طرابلس، يدعى أسامة نجيم يقود مليشيا تحت مسمى جهاز الشرطة القضائية. ووسط مطالبات منظمات دولية للسلطات الإيطالية بـ"الإيفاء بالتزاماتها" حيال القضاء الدولي، كونه مطلوباً للمحكمة، فوجئ الجميع بإطلاق سراحه ووصوله، ليل الثلاثاء الماضي إلى طرابلس جواً، وسط احتفالات أنصاره الذين استقبلوه استقبال المنتصر. أما الثاني فتصريحات لسيف الإسلام القذافي، المطلوب للجنائية الدولية، نشرتها إذاعة فرنسا الدولية الثلاثاء الماضي، وتتعلق بشهادته أمام القضاء الفرنسي في قضية تلقي الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي أموالاً من نظام والده معمر القذافي خلال حملته الانتخابية عام 2007.
وبصرف النظر عن تفاصيل تصريحات سيف الإسلام وقضية ساركوزي ودواعي الإذاعة الفرنسية في إجراء هذا اللقاء في التوقيت الحساس بالنسبة لساركوزي، إلا أن اللافت هو في كيفية الوصول إليه، وهو المختفي منذ سنوات طويلة هرباً من المحكمة الجنائية الدولية التي تلاحقه. والسؤال من جهة أخرى هو ما موقف الجنائية الدولية من الإذاعة التي سمحت لنجل القذافي بالظهور علناً للتصريح وممارسة العمل السياسي، وإن كانت الحجة هي مبادئ حرية الرأي واستقلالية وسائل الإعلام، فماذا عن موقفها من تلقي المحاكم الفرنسية شهادة سيف الإسلام؟ بلا شك أن خصوم ساركوزي يقفون وراء خروج سيف الإسلام وتصريحاته، وهو أمر يزيد من الشكوك حول نزاهة القضاء، وتمكن الأغراض السياسية والخصومات منه، وإلا كيف تقبَل شهادة رجل مطلوب دولياً ومحلياً في قضايا وجرائم جنائية؟
في الجانب الآخر، علّلت السلطات الإيطالية إطلاق سراح نجيم بعد يومين من اعتقاله بأنه لم يكن معتقلاً، بل احتُجز لأخطاء إجرائية في جواز سفره، بحسب صحيفة لاستامبا. ولأن تصريحات أخرى سبقت هذا التبرير أكدت أن نجيم اعتُقل تنفيذاً لمذكرة أصدرت بحقه من المحكمة الجنائية الدولية، عاد مسؤولون إيطاليون للتصريح لصحف إيطالية بتبريرات غريبة لإطلاق سراح نجيم، وتتعلق بأن مذكرة الإيقاف صدرت من المحكمة الجنائية يوم 18 يناير/ كانون الثاني الحالي، وهو اليوم الذي تم فيه اعتقاله، ولم تتواصل المحكمة مع وزارة العدل الإيطالية قبل الاعتقال، فيما كانت وسائل إعلام ليبية تتحدث عن اتصالات أجراها قادة السلاح في طرابلس لإطلاق سراح نجيم مقابل وعود تتعلق بمصالح إيطالية في ليبيا.
لم يكن الحدثان الأولين من نوعهما، ففي روما أيضاً، التي سُنّ فيها نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، تم اعتقال صدام نجل حفتر، في أغسطس/آب الماضي، على خلفية مذكرة اعتقال بحقه صدرت من بعض المحاكم الأوروبية، لكن أطلق سراحه بعد ساعات من تواصلها مع والده، ما يفتح تساؤلات كبرى أمام حقيقة العدالة الدولية وكيف تُدار الملفات الجنائية لمصالح المتنفذين فيها لتنفذ مذكرات التوقيف الخاصة بها متى شاءت، وتتغاضى عنها متى تريد.
