أيها الفلسطيني انتبه... المساران مغلقان

منذ ٢ أيام ١٥

تسعى أطراف دولية وإقليمية عديدة إلى استثمار الاحتجاجات في غزّة ضد حركة حماس في سياق الحرب النفسية التي تُشنّ، ليس فقط على الحركة بغرض الضغط عليها في المفاوضات لتسليم الأسرى الإسرائيليين جميعاً، والرضوخ لتهديدات ترامب قبل نتنياهو وفريقه، وإظهار أنّ الحاضنة الشعبية قد انقلبت على الحركة بعد نحو 18 شهراً، وإنما أيضاً لإعلان الحركة ضمنياً الاستسلام والخروج الكامل من المشهدين العسكري والسياسي.

مثل هذه الفرضيات مبالغ فيها جداً، فضلاً عن أنّها تتجاهل حقائق صلبة على الأرض، بداية من محدودية الاحتجاجات نفسها، التي لا تتجاوز مئات الأفراد هنا وهناك، مقارنةً بمئات آلاف من المهجّرين والمعذّبين والمبتلين بأشد أنواع البلاء والإبادة لا يأخذون الموقف نفسه، ليس خشية من انتقام "حماس"، كما يحب خصوم الحركة أيضاً القول، بل لأنّهم يدركون تماماً أنّ ما يحدُث هو تنفيذ "أجندة إسرائيلية" موجودة منذ قيام إسرائيل، بل ربما قبل ذلك، والمسألة كانت استثماراً على المستويات كافّة لهجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) لتسريع وتيرتها واستثمار حالة الاختلال في التوازن والضعف الاستراتيجي العربي السافر، ولمتغيريْن رئيسين آخرين عزّزا من الشعور الإسرائيلي بـ"فيض القوة"؛ الأول انهيار النفوذ الإيراني الإقليمي، وخروج حزب الله من المعادلة بالكلية، وتلاشي ما يسمّى "معسكر الممانعة" (باستثناء ضربات الحوثيين المحدودة البعيدة)، والثاني عودة ترامب بفريق جديد أسوأ مما قبل، وبأجندة مسكونة بتبنّي ليس مصلحة إسرائيل، بل أيضاً أجندة يمينها الديني المتطرّف.

الأفضل عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة وتفكيك الحجج الإسرائيلية اليوم قبل غد، إذا كان ذلك فعلاً سيوقف الحرب وسيناريو التهجير. ولكن، هل ستقف إسرائيل عند هذه الحدود؟ وما الذي يحدُث في سورية والضفة الغربية وحتى ضد حزب الله إذاً؟ سيتذرّع نتنياهو بجناح القسام العسكري وبأعضاء الحركة، ويطالب بضمانات أكبر بإخراجهم من غزّة أو القضاء عليهم، وهكذا سندخل في حلقة جديدة من حلقات الإذلال، ولكن هذه المرّة بعد أن تكون ورقة الأسرى قد سقطت من يد "حماس"، ولن يحترم نتنياهو ولا ترامب أي تعهدات والتزامات، وهو ما ثبت قطعاً وعياناً عندما تنصّلوا من تطبيق المرحلة الثانية من الاتفاقية.

أغلب الغزّيين ليسوا أغبياء. هم أبناء القضية وأصحابها وأدرى بشعابها، ويدركون تماماً هذه الحقائق الواضحة كالشمس، لا يتفقون بالضرورة مع حركة حماس، ولا مع أيديولوجيتها، وربما كثير منهم يحمّلونها مسؤولية إطلاق فرانكشتاين الصهيوني الدموي من القمقم ليقتات على دماء الأطفال والنساء وأشلائهم؛ لكن ذلك لم يعد اليوم المسألة، بل كيف يمكن إيقاف القتال ووقف التهجير والاحتلال والحدّ من حجم الخسائر الكارثية الكبرى.

لو كانت الحال أفضل في الضفة الغربية، حيث "أوسلو" مطبّق ومعمول به شكلياً، والمسار السلمي فعّال، كنا سنقول إنّ مسار المقاومة نتيجة الاختلالات الفجّة الكبرى في موازين القوى مغلق اليوم. دعونا نراهن على خيار التسوية السلمية، لكن الأخير ليس أفضل حالاً، بل تجاوزت إسرائيل، ومعها أميركا، مفهوم "حل الدولتين" (لم يكن مطروحاً إلاّ شكلياً بلا قيمة)، وما هو معلن ومخطط له اليوم هو القضاء أيضاً على السلطة الفلسطينية والعودة إلى مرحلة ما قبل "أوسلو"، أو تقزيم كل المشروع السلمي إلى حكم ذاتي تحت الوصاية العسكرية والأمنية الإسرائيلية الكاملة.

لا مندوحة هنا من الاعتراف بأنّ هنالك أزمة حقيقية وكبيرة في البيت الفلسطيني وقدرته على مواجهة التحدّي الأكثر خطورة في تاريخ القضية ومصيرها، ما يزال الفصيلان الرئيسيان يمارسان لعبة التلاوم. وإذا كانت "حماس" تعاني الأمرّين بسبب الانقلاب في السياقات الدولية والإقليمية، وغياب روافع المشروع المقاوم، فإنّ "فتح" لم تعد موجودة بصفتها حركة تحرر وطني، بل تماهت مع السلطة، وذابت في أروقتها، وفقدت الروح النضالية بدرجة كبيرة؛ والسلطة نفسها تعاني من مأزق وأزمة وجودية، لأنّ المشروع الذي تأسست عليه (الحل السلمي المرحلي) لم يعد موجوداً أيضاً.

المطلوب، إذاً، مراجعة عميقة واقعية من النخب والسياسيين الفلسطينيين للتحولات الجوهرية في البيئة الدولية والإقليمية وفي التحولات الكبيرة داخل إسرائيل نفسها، وفي انسداد المسارين (المقاومة والتسوية) والتفكير في الخيارات الممكنة والمرحلية إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

قراءة المقال بالكامل