مطلع عام 2025، نشر ضياء الجندوبي على صفحته في إنستغرام أغنية راب جديدة. لم يتعلق الأمر بمجرد شاب يحاول شق طريقه في العالم الفني، إذ إن شهرته تعود أساساً لتقديمه محتوى، مُلخصه التجول واكتشاف المواقع والمعالم الأثرية والتاريخية التونسية. وأغنيته "قرتبعل" كانت امتداداً لذلك، بل "دعوة نحبها توصل للمريخ"، كما جاء في نهايتها. دعوةٌ لإعادة اكتشاف تاريخ جمهورية قرطاج القديمة، تصلح أن تكون مانيفستو سياسي-موسيقي، لا يلخّص ما يتبنّاه صاحبها من أفكار فقط، بقدر ما يعكس موجة سائدة بين خليط جديد من الباحثين الأركيولوجيين والهواة وحتّى السياسيين المسكونين بهاجس إحياء قرطاج القديمة (816 ق.م.-146 ق.م)، وتحويلها إلى هوية قومية تونسية بديلة.
والتونسيون بالنسبة للقرطاجيين الجدد شعب قرطاجي بالأساس، والعروبة والإسلام وحتّى الأمازيغية لا تصلح في أحسن الأحوال إلا أن تكون روافد ثانوية، تصبُّ في هويته الأصلية، دون أن تغيّر من كنهها شيئاً. ومن أجل تبرير هذه السردية المتخيّلة، أمسى الصدام مع الرواية الرسمية للتاريخ وللأركيولوجيا أمراً لا مفر منه. فالآثار الرومانية كذبة وتحريف، كما يصفها الجندوبي في أغنيته، وطاقية التونسيين الحمراء المعروفة باسم الشاشية، قرطاجية وليست صناعة أندلسية حديثة، وفقاً لأحد أساتذة التاريخ الشبّان. وهكذا دواليك، حتى تبتلع صورة قرطاج كل شيء. وبالرغم من بلوغ هذه التريندات انتشاراً غير مسبوق، إلا أنها لم تأت من عدم، بل جاءت كنتيجة وردة فعل لتاريخ عمره ألفا عام ونيف، من إعادة تمثّل قرطاج ومكانتها، وكأنه محتوم على ذكرى هذه المدينة أن يعاد رسم صورتها، مع كل عصر، وفقاً لحاجيات الفاعلين فيه السياسية أو أمانيهم أحياناً.
انطلقت القصة مع اقتحام الرومان للمدينة عام 146 ق.م، مُنهين بذلك آخر الحروب البونية، حيث قُتل الرجال وسُبيت النساء وأُحرقت ما كانت بالأمس أكبر مدن غرب المتوسط، ثم حرث المنتصرون رمادها بالملح، حتى لا ينبت فيها زرع ولا يسكنها بشر. ولقرنٍ من الزمان أعلنت قرطاج أرضاً رومانية محرّمة، ثم أُعيد على أنقاضها بناء مستعمرة، صارت في ما بعد واحدة من أكبر مدن الإمبراطورية وأكثرها إشعاعاً. صحيح أنها حملت الاسم نفسه، ولكنّها كانت قرطاجاً أخرى، قرطاجاً رومانية، استمات مؤرّخوها على ألا يبقى من ماضيها سوى ذكرى انتصار الرومان على شعب وحشي.
سرديات اصطدمت مع الرواية الرسمية للتاريخ والأركيولوجيا
ثم جاء العرب، وعوض الاستقرار بداخلها، اختاروا بناء أخرى جديدة سمّوها تونس. وبذلك انطلق خراب قرطاج الثاني الطويل. وكسابقيهم لم يهتم العرب بإعادة اكتشاف قرطاج، حتى أنَّ المؤرخ الرقيق القيرواني، الذي عاش في بدايات القرن الحادي عشر الميلادي، ربط تأسيسها وخرابها بأقوام من الجبابرة، فالمدينة "بناها قوم من بقية آل عاد وبقيت بعدهم خراباً ألف عام، حتى أتى الزبير بن ثمود الجبار فبناها"، على حدّ وصفه.
مع القرن التاسع عشر أُعيد اكتشاف المدينة مرة أخرى، حين تسرب نحوها أوروبيون شتى: آثاريون، ولسانيون، وآباء كنيسة، ولأول مرة ظهرت أبحاث علمية جادة حولها، كشروح الأب فرانسوا بورغاد (1806-1866م)، التي شدّت انتباه الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير ليحملها معه نحو تونس عام 1858، ويكتب فيها "صلامبو"؛ الرواية التي ستمسي واحدة من أشهر كلاسيكيات الأدب الفرنكفوني حيث نالت شهرةً واسعة، بل إنها أثّرت في أجواء الموضة والفنون في وقتها. ولكنها أذكت أيضاً النيران في نقاش محتدم أصلاً حول حقيقة تضحية القرطاجيين القدامى بأطفالهم قرابين إلى الإله مولوخ، وهي مقولة سيحاربها القرطاجيون الجدد بضراوة في ما بعد باعتبارها امتداداً للدعاية الرومانية القديمة، في حين تبناها فلوبير صراحة، ومن خلال روايته الناجحة عمّقها في المخيال الغربي. ثم دخل الاستعمار الفرنسي أرض تونس رسمياً سنة 1881 ومعه انطفأت جذوة الاهتمام بقرطاج البونية، لصالح وريثتها الرومانية.
ومع استقلال تونس سنة 1956، انقلبت أولويات الدولة الفتية، الساعية لدحض الاستعلاء الاستعماري بإثبات الجذور الفينيقية والشرقية لقرطاج، وتواصلت الحفريات وبعث قسم متخصص للدراسات البونية واللوبية ضمن "المعهد الوطني للتراث" لكن في جو علمي رسمي معتدل، وبرزت أسماء جيل تونسي فتي من الأركيولوجيين من أمثال محمد حسين فنطر، ممّن درسوا في الجامعات الفرنسية وناقشوا ضمن سياقاتها الأطروحات السائدة بداخلها حول قرطاج ما قبل الرومان. غير أن هذا المنهج المعتدل، وإن ساد خلال عقود لم يسمح فيها لغير الروايات الرسمية بالانتشار، أمسى في العقدين الأخيرين قاصراً على الصمود أمام انبعاث قرطاجة أخرى جديدة وغير كلاسيكية.
أُعيد اكتشاف المدينة في القرن الـ19 تزامناً مع جهود أوروبية
مع الوسائط التقنية الجديدة، ومواقع التواصل الاجتماعي، لم تعد صناعة صورة قرطاج مقتصرة على أوساط الأكاديميين والوثائقيات الرسمية، إنما فُتح الباب لأول مرة لغيرهم ممن استهوتهم القصة، وسكنهم الظمأ لثأر لم تروه القرون أو الرغبة في البحث عن هوية سياسية جديدة وأكثر جاذبية خارج أطر الأمة والقومية العربية. وما كان مجرد حلم لدى كريم مختار، المهندس التونسي المغترب، أمسى سنة 2012 أول حركة سياسية رسمية ترفع شعار "إحياء جمهورية قرطاج" تحت اسم حركة جمهورية قرطاج، تبنّى منظرها الأساسي خطاباً معادياً للروايات السائدة باعتبارها مؤامرة لطمس تاريخ وفضل المدينة على العالم، ولأول مرة دخلت مصطلحات مشحونة سياسياً من قبيل التآمر، في أدبيات الموضوع، وعلى خطاها ظهرت حركة "قرطاج التحدي" ثم الحزب القومي التونسي، وهكذا.
حملت هذه الحركات على عاتقها همّ فضح مؤامرة تاريخية تحوم حول تاريخ التونسيين، وهو شعار أثقل كاهل حامليه أمام حقائق تاريخية وأركيولوجية ثابتة، مفادها أن ما ضاع من تاريخ المدينة أكثر مما بقي، وما بقي لا يكفي لإرضاء هوس معتنقيها. وبذلك صارت الأركيولوجيا الرسمية طرفاً آخر في المؤامرة، يجب أن يُناصب العداء. وفي صفحات ومجموعات القرطاجيين الجدد، أمسى تكذيب كل ما يُنشر رسمياً من أخبار أو اكتشافات أثرية لفسيفساء أو مواقع رومانية، أمراً شائعاً.
وحتى المواقع المصنفة باعتبارها معالم رومانية ثابتة، كمسرح تيسدروس -الجمّ (المصنف كتراث إنساني منذ 1979) لم تسلم من حملات تنسبها لحضارة قرطاجية غابرة، ولو تنافى ذلك مع كل الأدبيات المعرفية، وحتى مقولة قرطاج الفينيقية، نُوصبت العداء: "لا كنعاني لا فينيقي، قرطاجي أصلي بونيقي، هيّا نصلحوا هالتاريخ" كما غنّى الجندوبي.
وفي مفارقة صارخة وبالرغم من كل ما صاحب هذه النزعة "العلموية" من حدّة، فإنها تمكنت في أكثر من مناسبة من التأثير على الرواية الرسمية لتاريخ قرطاج، بداية من حملة "رجّع الدرع" سنة 2020، التي أجبرت الوزارة على الخروج للعلن من أجل تبرير ما حام حول سرقة "الدرع الكمباني" الراجع لزمن حنّبعل، في إيطاليا وإرسال وفد خاص لاسترجاعه، ثم إجبار وزارة الثقافة على تعديل وصف زيارة أجرتها الوزيرة منذ سنوات لموقع التوفات في قرطاج، ورد فيه أنه موضع لتقديم الأطفال كقرابين، حيث أثار بيان الوزارة غضباً، وأجبرت في النهاية على حذف الأسطر، التي كانت لقرون تذكر كلازمة مع كل ذكر للمدينة. وعلى صفحات المتاجر الإلكترونية، أمست قرطاج "براندا" يزيّن القمصان. وبهذا انبعثت المدينة من جديد، مُتخيلة وأسطورية، في تحد لما توهم.
* كاتب وباحث من تونس
