إدارة الصراع على الجغرافيا السورية

منذ ٤ ساعات ٦

سمعت خبيراً اقتصادياً مرة يقول: لو استغلت سورية نعمة الجغرافيا فقط، لتحسّنت معيشة شعبها إلى أكثر من بحبوحة سكان الخليج، وأذكر كيف بيّن ذلك الخبير دور موقع سورية بعبور خطوط الطاقة والعائدات التي ستجنيها، وكيف شرح تطوير "صناعة الخدمات" جراء العبور فوق الأرض السورية وتحتها، بما يلغي البطالة في سورية و"ينام السوريون إلى ما بعد الظهر".

اليوم، وبعد هروب الأسد وتعطيل تلك الأحلام، أعيد، وإن بالخفاء أحياناً، طرح جملة من المشاريع المتوقفة والمؤجلة، داخل سورية ودول جوارها، لتسرّع رفع العقوبات الأوروأميركية، أو تخفيفها، من تحويل الأحلام إلى واقع، وإن بحسابات جديدة وتحالفات مختلفة تعتمد توزيع الحصص والأدوار، وفق مبدأ الأولوية لواشنطن ومن ثم لحلفائها.

والذي يقدر نعمة الجغرافيا السورية، فضلاً عن الثروات المدفونة داخل البلاد والمشروعات المعطلة، يعرف ربما كم تتلهف تركيا إلى الاستفادة من الوصول إلى الدول العربية عبر سورية، ويتفهم دور منفذ لبنان البري الوحيد وأهمية وصول دول آسيا براً، إلى تركيا وأوروبا، عبر الممر البري شبه الوحيد الكامن بسورية.

ونعرف مخاوف روسيا وإيران وإسرائيل، إن توسعنا لما هو استراتيجي وطاقوي، فسورية الحلم المؤجل لعديد من الدول المنتجة للنفط والغاز لإيصال صادراتهم إلى أوروبا، عبرها. طبعاً من دون المبالغة بموقعها واعتبارها همزة الوصل الوحيدة بين طرق عبور الغاز، أو أنها طريق مسدود، ولا عبور لخطوط النفط إلى أوروبا عبر المتوسط أو تركيا إلا من خلالها، فثمة شمالي العراق وإيران بالمعادلة، وإن كانا، ليسا كما الميزة السورية الجغرافية وانخفاض التكاليف... وربما الأهم، الشاطئ المتوسطي الذي يعطي تفضيلاً للحالة السورية.

قصارى القول: باستعراض لمشاريع خطوط الطاقة العابرة من سورية والصراع على "الجيوبوليتيك السورية" الذي تجلّى فاقعاً بعد استقلالها، عام 1946، وقت رفض الرئيس، شكري القوتلي، خطة مشروع "التابلاين" الذي أمر به الملك السعودي، عبد العزيز آل سعود باقتراح أميركي، لنقل نفط السعودية والخليج إلى لبنان عبر سورية ومن ثم إلى العالم عبر المتوسط، وما يقال إنه سبب إطاحة القوتلي وتسهيل وصول الرئيس، حسني الزعيم، الموالي للولايات المتحدة ومشروع "التابلاين"، الذي نفَّذته لاحقاً عام 1950.

سنرى، جراء الاستعراض، أن سورية يمر عبرها الخط العربي لنقل الغاز الذي بدأ عام 2001 بين مصر والأردن وسورية ولبنان، لتتعدى أهميته وفوائده المنطقة، وتطاول أوروبا وآسيا وأفريقيا، بعد التفاهمات الإقليمية ووصول الغاز العربي إلى حدود تركيا وربطه بخط أنابيب نابوكو.

وتجلى هذا الخط واقعاً، بعد تنفيذ مراحله الثلاث، من حقل العريش المصري للعقبة إلى الأردن عام 2003، ثم قسم من العقبة إلى الرحاب قرب الحدود السورية عام 2005، والقسم الثالث، عام 2008، من الرحاب إلى حمص وسط سورية، قبل أن يبلغ الحلم منتهاه عام 2009 ويصل الخط من حمص إلى ميناء بانياس غربي سورية وطرابلس شمالي لبنان.

لكن هذا الخط العربي توقف بعد الثورة السورية، وتأذت بعض خطوطه التي يقع نصفها ضمن الأراضي السورية، ولم يزل معطلاً حتى بعد استقرار سورية خلال الأعوام الأخيرة، رغم تصريحات أميركية بإعفاء إعادة إحياء المشروع من عقوبات "قانون قيصر" لما له من دور في خنق الغاز الروسي والإيراني.

والخط الثاني الذي عطله نظام الأسد السابق بطلب إيراني، هو خط الغاز القطري – التركي، بعد اقتراح الدوحة عام 2000، بناء خط أنابيب غاز طبيعي بقيمة 10 مليارات وطول 1500 كيلومتر عبر السعودية والأردن وسورية، قبل أن يتفرع من جنوبي سورية، إلى طرابلس شمالي لبنان وإلى اللاذقية غربي سورية وإلى تركيا، لربط قطر مباشرة بأسواق الطاقة الأوروبية.

بيد أن نظام الأسد، ورغم ما يحققه الخط من عائدات مالية مباشرة وحصة من الغاز، رفض عام 2009 بطلب إيراني ثم روسي، السماح لخط الأنابيب بالمرور عبر سورية، مما أدى إلى فشل المشروع، رغم الإغراء لنظام الأسد وقتذاك، والتعويل الأميركي والأوروبي على الخط الذي يعزز أمن الطاقة بأوروبا، ويحد من نفوذ روسيا وتحكمها في طاقة القارة العجوز التي تمدها موسكو بنحو 70% من صادراتها الغازية.

وثالث الخطوط لنقل الطاقة التي تمر، أو كانت ستمر عبر الجغرافيا السورية، هو خط الغاز "الإسلامي" الإيراني، ذلك الحلم الذي يراه مراقبون سبباً لتكالب طهران على التمركز في الأرض السورية خلال الثورة ومحاولة قتلها حلم السوريين. 
لأن إيران ومن خلال حلمها أن تكون مورد الطاقة الرئيس لأوروبا، سعت لتنفيذ "الخط الإسلامي" من حقول الغاز على الخليج العربي مروراً بالأراضي العراقية، وصولاً إلى البادية السورية بريف حمص الشرقي، قبل أن يتفرع إلى موانئ لبنان وإلى الشمال ليصل إلى تركيا.

علماً أن "خط الأنابيب الإسلامي" يمتد من الجانب الإيراني من حقل الغاز الإيراني في الخليج العربي مروراً بالعراق عبر سورية ثم يتفرع إلى ثلاثة فروع من حمص إلى اللاذقية ومن حمص إلى الشمال نحو تركيا ومن حمص إلى موانئ لبنان. لكن هذا المشروع لم ير النور أيضاً، بسبب الثورة السورية وفشل إيران في السيطرة على الأراضي السورية، قبل أن ينشب الخلاف بين طهران والأسد في العام الأخير قبل هروبه، لأسباب كثيرة، منها التقارب العربي مع الأسد ورفض موسكو التي ستتضرر من "الخط الإسلامي" ويحد من تحكمها في الطاقة الأوروبية.

وآخر الخطوط التي كانت قائمة وتعطلت، فهو خط كركوك - بانياس، المقام منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي، بطول 800 كلم وطاقة 300 ألف برميل يومياً، والذي على ما يبدو، سيكون الأول إعادة وتفعيلاً، بعد المساعي العراقية وزيارة الوفد العراقي دمشق أخيراً، لبحث إعادة تأهيل الخط وتصدير الخام العراقي الذي يزيد عن ثلاثة ملايين برميل يومياً، عبر موانئ سورية إلى الأسواق العالمية، لأنه الأقل كلفة ومخاطر من خط جيهان التركي الذي يتأثر بالتوترات مع حكومة إقليم كردستان واضطرابات البحر الأحمر جراء التصدير عبر موانئ البصرة.

بيد أن الخط، بواقعه الراهن، يحتاج إلى تأهيل وإصلاح وصيانة كبيرة، ربما ما يقارب تكاليف مد خط جديد، أو الالتفاف على المقاطع المهترئة والمتفجرة والمهملة منذ آخر توقف للخط عام 2003. للوصول إلى ميناء بانياس، أو، وهذا ليس بالبعيد، ربما تلتف العراق على المشروع برمته، وتتجه إلى ميناء العقبة، رغم تضاعف المسافة وزيادة التكاليف لتكون خسارة النقل وبناء الخط مع الأردن على العراق، وخسارة على سورية جراء تفويت تشغيل مصفاة بانياس وتنشيط المرفأ وموارد ونسبة من النفط، وهي من تستورد بنحو 1.2 مليار دولار نفط خام سنوياً، بعد تراجع إنتاجها من 380 ألف برميل قبل الثورة إلى نحو 30 ألف برميل تسيطر عليها دمشق اليوم.

نهاية القول: ليس من المبالغة بمكان، إن قلنا إن الجغرافيا السورية، نعمة ونقمة في آن، بل نسب جلّ التكالب على أرضها التي تعتبر ممراً شبه إلزامي، لخطوط الغاز والمعابر والطرق التجارية الدولية. فالجغرافيا أحد أسباب منع انتصار الثورة، أو تأخيره على الأقل، بعد صراع المتنافسين في موسكو وأنقرة وطهران والخليج وحتى الولايات المتحدة، التي ركزت قواتها على مثلث سورية العراق الأردن، منذ سنوات، لتعيق أي مشروع نقل الطاقة.

كما أن الجغرافيا، اليوم، يمكن أن تكون نعمة على السوريين وعاملاً أساساً في تقليل البطالة وتأمين الطاقة، بل المساهمة بإعادة إعمار البلاد من دون مد اليد والارتهان لإملاءات الدول وشروط المؤسسات المالية. ليبقى الحسم، بين النعمة والنقمة، في لعبة المصالح وإدارة وحسن استثمار الصراع على الجغرافيا، وتصدرهما أولويات عمل حكومة الرئيس أحمد الشرع اليوم، والتي، بالإدارة والاستثمار، يمكن أن تنقل سورية من الفقر والعوز إلى الغنى والبحبوحة... أو تعيدها منطقة ساخنة يتصارع عليها أصحاب المصالح.

قراءة المقال بالكامل