كادت الكوارث التي شاهدها النازحون العائدون إلى مناطقهم في محافظتي غزة والشمال أن تقتل فرحتهم بالعودة، إذ وجدوا مناطقهم مدمرة، وبلا ماء أو كهرباء أو طرق، لكنهم مصممون على إعادة البناء.
صدم مئات آلاف النازحين الفلسطينيين العائدين إلى محافظتي غزة والشمال من حجم الدمار والخراب الذي حل بمنازلهم ومناطقهم السكنية، والتي أجبر بعضهم على تركها في بداية العدوان الإسرائيلي في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أو على وقع التهديدات والقصف المباشر والأحزمة النارية خلال العملية العسكرية الأخيرة على الشمال، لكن الخيارات المحدودة لم تدع لهم سبيلاً سوى ترميم بيوتهم، أو البحث عن مساكن بديلة.
ورافق عودة النازحين الفلسطينيين إلى شمال قطاع غزة الكثير من التحديات، بداية من الطريق المرهقة من جراء التكدس الشديد للسيارات والشاحنات، وبطء الحركة بفعل الازدحام وآلية التفتيش البطيئة، وصولاً إلى كون مناطقهم منكوبة، وبعضها تنعدم فيه جميع أشكال الحياة إذ سويت المباني بالأرض، إلى جانب تدمير مختلف المؤسسات الخدمية والبنية التحتية، في حين ينعدم وجود مواد البناء التي من شأنها المساعدة على ترميم البيوت، أو إعادة بنائها.
توجه عدد من العائدين إلى شمالي غزة نحو مراكز ومخيمات الإيواء
فور وصولهم إلى مشارف مدينة غزة المدمرة بعد الانسحاب الإسرائيلي من محور نتساريم والسماح بعودة النازحين في المحافظات الوسطى والجنوبية نحو الشمال، تكشفت ملامح المأساة للعائدين، وتقدر جهات محلية ودولية أن حجم الدمار الحاصل يتجاوز 80% من المنازل والمرافق، ويصف العائدون ما سيعيشونه خلال الأشهر، وربما السنوات المقبلة، بأنه "حرب جديدة"، لكنها حرب إعادة إعمار وبناء.
واضطر عدد كبير من العائدين إلى التوجه نحو مدارس ومراكز ومخيمات الإيواء بفعل تدمير بيوتهم، وسط أوضاع معيشية وبيئية مأساوية، تنعدم فيها مقومات الحياة وتفاصيلها، بلا ماء وكهرباء أو حتى بدائل عنها، إذ تنعدم مصادر الطاقة البديلة بفعل تدمير قوات الاحتلال ألواح الطاقة الشمسية والمولدات الكهربائية التي تعمل بالوقود، إلى جانب عدم توفر الوقود اللازم لتشغيل المولدات الشحيحة المتوفرة.
وطاول الدمار الأسواق والمحال التجارية، فيما يعتمد الفلسطينيون في المحافظات الشمالية بعد عودتهم من النزوح القسري على بعض البسطات الصغيرة التي توفر كميات قليلة من المتطلبات المعيشية، فيما يغيب عنها الكثير من الأساسيات، وهو الأمر الذي دفع بعض العائدين إلى عدم تشجيع أقاربهم النازحين على استعجال العودة، إذ لا تزال المحافظات الوسطى والجنوبية تحتفظ بالقليل من الخدمات الأساسية لتسيير أمور الحياة اليومية.
يظهر الدمار بشكل واضح في الطرق، الأمر الذي يعيق الحركة، في حين يؤثر انقطاع التيار الكهربائي على تشغيل محطات المياه والمرافق الصحية، وتقتصر التحركات الحكومية وأعمال المؤسسات الدولية خلال الفترة الحالية على توفير الحلول المؤقتة، مثل توزيع المساعدات الغذائية.
عاد الفلسطيني تيسير الأشرم بعد نزوح طويل إلى حي الشيخ رضوان شمالي مدينة غزة، ويقول إن الوضع مأساوي، وإنه في لحظة وصوله وجد بيته مدمراً بالكامل، ولا يوجد أي مأوى حقيقي لعائلته، وهو مضطر حالياً للبقاء في خيمة صغيرة مع أطفاله، كما أنه يعاني لتوفير الطعام، فالأسواق مغلقة، ولا يملكون حتى الماء النظيف للشرب.
ويوضح شقيقه سعدي الأشرم لـ"العربي الجديد" أن "ما شاهدناه بعد رجوعنا إلى مدينة غزة كان أسوأ مما تخيلنا. كنا نأمل أن يكون بيت العائلة قائماً، أو تضرر جزئياً، وأننا سنتمكن من ترميمه، لكننا فوجئنا بالدمار الشامل، سواء للبيت أو المنطقة السكنية كلها، التي تحولت إلى أثر بعد عين، كما لم نجد أياً من مقومات الحياة، فلا مصدر للماء الخاص بالاستخدام اليومي أو المياه الصالحة للشرب، والكهرباء مقطوعة، ولا يوجد أي بديل عنها، كما نعاني منذ وصولنا من شح الطعام".
ويضيف: "بعد وصولنا، فكرت بالعودة إلى حياة النزوح في المناطق الجنوبية، رغم قساوتها، لكنني تراجعت عن ذلك، وأنشأت خيمة إلى جوار خيمة شقيقي، وسنزيل ركام البيت شيئاً فشيئاً، وننقل الخيام إلى داخل أرضنا، ونأمل أن نتمكن من بناء البيت مجدداً بعد الحصول على تعويض مادي من الجهات المختصة".
ويعتمد غالبية الفلسطينيين العائدين من النزوح على الخيام، وبعضهم يعيش في الأجزاء السليمة من المنازل المدمرة، وهم يحاولون تدبير أمور حياتهم في الأيام الأولى لعودتهم، لكن شعور الصدمة من حجم الدمار ومن عدم وجود حلول سريعة يطاردهم، ما ينعكس على حالتهم النفسية، وعلى حياة عائلاتهم، وهم بغالبيتهم يعتمدون على المساعدات الإغاثية مصدراً رئيسياً لتوفير القوت اليومي، رغم عدم كفايتها لتغطية الاحتياجات اليومية، ويقومون بشحن هواتفهم وبطاريات الإضاءة في نقاط شحن بسيطة تفتح ساعات محددة خلال النهار.
يقول الفلسطيني خالد البدرساوي إنه تكبد عناء وتكاليف العودة إلى محافظة الشمال عبر شاحنة رفقة عدد من جيرانه، وقد صدم من حجم الدمار الواسع الذي شاهده على طول الطريق، الذي زاد بشكل كبير عند مروره بمدينة غزة نحو مخيم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين، الذي دمرته الطائرات والآليات الحربية الإسرائيلية تماماً.
ويوضح البدرساوي لـ"العربي الجديد" أنه كان يتوقع أن يجد منزله متضرراً، لكنه وجده مدمراً بالكامل، بما في ذلك بقالته الصغيرة التي كان يعتاش منها طوال 15 عاماً، مضيفاً: "فقدت كل شيء، البيت والمحل والبضاعة، والأمل ضعيف في إعادة الإعمار قريباً بفعل مشاهد الدمار الواسعة وعدم توفر مواد البناء. قمت بفك خيمتي الخشبية التي عشت فيها طوال فترة النزوح رفقة أسرتي في مخيم النصيرات بوسط القطاع، ونقلتها معي في رحلة العودة الشاقة تحسباً لتهدم البيت كلياًَ، وعاودت نصب الخيمة أمام أطلال بيتي، وسأفتتح بسطة صغيرة لبيع مواد التنظيف تساعدني على توفير مصدر دخل يمكنني من توفير قوت أسرتي".
قبل عودته، سمع أدهم أبو مرسة كثيراً عن حجم الدمار في الشمال، لكنه لم يتخيل أنه بهذا الحجم المريع، وحين عاد، وجد بيته متضرراً بشدة، ولا يمكنه العيش فيه إلا بعد إزالة الردم المتراكم داخل مرافقه بفعل قصف المنزل الملاصق الذي تسبب في تهدم جدران الواجهة.
ويقول أبو مرسة، لـ"العربي الجديد"، إنه أنشأ خيمته بجوار منزله غير الصالح للسكن بهدف إيواء أسرته خلال الأيام القادمة، إلى أن ينتهي من إزالة ركام الجدران والردم المتطاير وآثار الحروق التي أصابت المنزل، وإنه سيعود إلى السكن فيه فور الانتهاء من تنظيفه، وسيستخدم الشادر الخاص بالخيمة بديلاً عن الجدران والنوافذ المدمرة. ويبين أن "المعاناة لا تقتصر على مشاهد تدمير البيوت، فالدمار طاول كل ملامح الحياة، وبالأخص الكهرباء والماء. أقطع مسافة طويلة للحصول على مياه صالحة للشرب بأسعار مرتفعة، رغم أنني لا أمتلك المال الكافي. لا نعيش حياة، بل كابوساً جديداً".
من جانبه، يوضح الفلسطيني صبري نصار، الذي يعيش في منزله المدمر جزئياً، أنه عاد مع عائلته، وقام بإصلاح غرفة واحدة للبقاء فيها، لكنها بلا سقف يحميهم من الأمطار، وليست لها أبواب. ويقول لـ"العربي الجديد": "أطفالي يعانون من البرد ليلاً، ونضطر لاستخدام الشموع للإنارة، وأحاول خلال النهار إصلاح ما يمكن إصلاحه في البيت المتهالك. لا أمتلك المال لشراء مواد البناء الشحيحة ومرتفعة الثمن، ما يضطرني إلى استخدام الحجارة والأخشاب المتوفرة من أنقاض المنازل المدمرة، وأعمل وحدي طوال اليوم. لم نتلق أي مساعدة من الحكومة أو من المؤسسات الدولية حتى الآن، وكل شيء نقوم به هو بالجهود الذاتية".
وحول طريقة توفير المتطلبات اليومية لأسرته بعد العودة، يشير نصار إلى أنه يعتمد على أقاربه في توفير الطعام لانشغاله في الترميم، وسيقوم بالتسجيل في مركز تابع لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" لإثبات عودته، لكن المشكلة اليومية الأكبر تتمثل في الحصول على الماء.
ويواجه العائدون إلى شمال قطاع غزة صعوبات في تأمين احتياجاتهم اليومية وإدارة حياتهم في ظل الدمار الذي طاول المنازل والبنية التحتية، والجميع ينتظر وصول المساعدات وإطلاق جهود إعادة الإعمار. وتبقى عودة بقية النازحين إلى شمال غزة مرتبطة بالتحديات المعيشية، وتوفير سبل الحياة لتخفيف المعاناة، بداية من إعمار البيوت والمناطق السكنية المدمرة، وتوفير المساعدات الأساسية، وإعادة تأهيل البنية التحتية، ويتطلب كل ذلك الضغط الدولي على إسرائيل لتسهيل دخول مواد البناء ومستلزمات الإغاثة.
