حرصت المقاومة الفلسطينية في غزّة، منذ اليوم الأول الذي اندلعت فيه معركة طوفان الأقصى، على أن تكون لها سرديّتها المدعومة بالصورة والصوت، ولم يكن هدفها الوحيد إظهار عدالة قضيتها وأخلاقية ما قامت به، بل أيضاً قدرتها على الصمود، والتأكيد على فشل تحقيق العدو أهدافه من الحرب. وقد استمرّ هذا النهج طوال معارك استمرّت 15 شهراً، وزاد في الأيام الماضية بعد توقيع الاتفاق من خلال فعّاليات تسليم الأسرى الإسرائيليين، وما عكسته من التفاف المجتمع الغزّي في مجمله حول المقاومة، ومن خلال مشاهد عودة مئات الآلاف إلى شمال القطاع التي أكّدت عجز إسرائيل عن تنفيذ ما عرف بـ"خطّة الجنرالات"، التي أراد اليمين الإسرائيلي تطبيقها عبر تهجير سكّان غزّة، وخصوصاً في الشمال.
اهتمام المقاومة بالجانب الإعلامي، وخصوصاً بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، دفع إسرائيل إلى الخشية من وصول السردية الفلسطينية المصحوبة بأخلاقيات المقاومة وقيمها في التعامل مع الأسرى الإسرائيليين. ولذلك لم يكن مستغرباً تشديد الجهات الإسرائيلية، وكذا الخطاب الإعلامي، على ضرورة تجاهل هذه السردية أو تشويهها، خوفاً من تأثيراتها السلبية في الدعاية الإسرائيلية التي تروّج انتصار الجيش الإسرائيلي في غزّة، وتجنّباً للتعاطف مع مشاهد معاناة الفلسطينيين العائدين إلى الشمال الذي دمّرته الآلة العسكرية الإسرائيلية.
وترى أستاذة الوعي والتأثير الرقمي في جامعة رايخمان موران يرحي أن على إسرائيل ألا تسمح لحركة حماس بالسيطرة على السردية من خلال ما تبثّه من مقاطع عملية تسليم الأسرى الإسرائيليين، لأن الصراع على الوعي جزء جوهري في المعارك الحالية التي تخوضها إسرائيل، خصوصاً أن "حماس" (والفصائل الفلسطينية) لا تحرص على توجيه رسالتها إلى جمهورها فحسب، بل إلى الجمهور الإسرائيلي والرأي العام العالمي في الوقت نفسه. ولذلك، فإنه إذا كانت مقاطع الفيديو التي أعدت بطريقة متطورة للغاية ترسّخ في ذهن الإسرائيليين أن حركة حماس هي من تسيطر على الحدث، وأنها صاحبة القرار بشأن من يطلق سراحه، ومتى، وبأيّ طريقة، فإن على وسائل الإعلام الإسرائيلية أن تتوقّف عن بثّ هذه الصور كي لا تشارك في ترويج سردية "حماس".
الواضح هنا أن صحافيين إسرائيليين كثيرين تلقّوا رسالةَ سيطرة "حماس" على القطاع عبر مشاهدة هذه المقاطع، وما حملته من معانٍ أخرى تُظهِر عودة عناصر شرطتها في القطاع للانتشار بمُجرَّد وقف إطلاق النار، رغم تدمير الجيش الإسرائيلي كلّ نقاط الشرطة في غزّة. وتعتبر الصحافية في "يديعوت أحرونوت" عيناف حلبي أن انتشار الشرطة بهذا الشكل يتناقض مع أحد الأهداف الإسرائيلية للحرب، التي لم تكن تتضمّن القضاء على القدرات العسكرية لـ"حماس" فقط، بل على قدراتها الحكومية أيضاً. أمّا الكاتب في صحيفة "سروجيم" يئير أمير، فجاء مقاله منسجماً مع الشعور بالخيبة الذي يسود أوساط المنتمين للتيار الديني القومي، وساخراً من الرواية الإسرائيلية التي يروّجها كثير من الإعلاميين الإسرائيليين عن هزيمة "حماس" وإضعافها، ومؤكّداً حقيقةً واحدةً، حسب تعبيره، أن "حماس" هي من تدير المشهد الآن، وتستفيد استفادة كاملة منه، وأن على الإسرائيليين فهم الحدث من وجهة نظر الوعي الفلسطيني، لأن مثل هذه المشاهد من شأنها أن تبعث رسالة للفلسطينيين أن ما قامت به الحركة لم يكن إنجازاً أخلاقياً فحسب، بل نجاحاً للأفراد والخبرة والقدرة على القيادة في الوقت نفسه.
نادى إعلاميون إسرائيليون خلال حرب غزّة بحجب أي مقاطع مصوّرة تبثها المقاومة بدعوى أنها حرب نفسية
ثمّة رسالة أخرى يوجّهها الإعلام الإسرائيلي تحذّر من التعاطف مع سكّان غزّة على أساس أنه "غير أخلاقي"؛ من ذلك ما كتبه الصحافي في "يديعوت أحرونوت" ليئور بن عامي، حين اعتبر سكّان غزّة غير أبرياء، لأنهم تربّوا على الكراهية، وأخرجوا جيلاً من القتلة، بل إنهم لم يتورّعوا عن تخزين السلاح في غرف أطفالهم، وفي مدارسهم، من أجل قتال الجيش الإسرائيلي. ما كتبه بن عامي لم يكن حالةً فرديةً بالطبع؛ فقد تحوّل سمةً عامّةً في الإعلام الإسرائيلي، تسعى لتحجير المشاعر حينما يتعلّق الأمر بالفلسطينيين، وتعتبر كلّ من يتعاطف مع آلام سكّان القطاع غير أسوياء. وهذا الخطاب هو امتداد للأسلوب الذي اتبعته الدولة الصهيونية في مؤسّساتها منذ بداية الحرب، حين ركّزت على مجابهة تأثير صور المعاناة الفلسطينية في الرأي العام العالمي، عبر فبركة أكاذيب قتل الأطفال واغتصاب النساء، وتحويلها "تابو"، أو "هولوكوست" جديد يجب تصديق تفاصيله كلّها، واتهام منكره بمعاداة الساميّة.
ولطالما نادى إعلاميون إسرائيليون خلال شهور الحرب الطويلة بحجب أيّ مقاطعَ مصوّرةٍ تبثها المقاومة بدعوى أنها حرب نفسية، ما يعني أن تتحكّم إسرائيل في الصورة بشكل كامل، وأن تمارس رقابةً مشدّدةً على ما يبثّ؛ وأن تحظر أيَّ وسائل إعلام تقدّم رسالةً لا تريدها إسرائيل. وفي هذا السياق، جرى منع قنوات إعلامية عربية من العمل في الداخل المحتلّ. ومن المعروف أيضاً أن الرقابة العسكرية في إسرائيل تشدّد على كلّ ما ينشر حول المؤسّسة العسكرية، حتى إنها، بحسب تقرير يعود إلى العام 2016، أرسله المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي لموقع الحركة لحرّية المعلومات، قامت بين عامي 2011-2016 بشطب نحو ألفي تقرير وخبر، ومنعت نشرها، كما تدخّلت في نصوص 14 ألف خبر، وهو ما يساوي 20% من مجمل الأخبار التي وصلت إليها وراجعتها قبل نشرها في تلك الفترة، وحينها برّر المتحدّث باسم الجيش ذلك التصرّف بقانون صدر عام 1945 (قبل قيام الدولة)، يعطي الحقّ للرقيب العسكري بمنع أيّ منشور يمكن أن يضرّ بالجيش. الأخطر من ذلك أن موقع العين السابعة الإسرائيلي كان نشر تقريراً حول متابعة الرقابة العسكرية بعضَ المؤثّرين في منصّات التواصل الاجتماعي إذا تجاوز متابعوهم عدداً معيّناً؛ وفي هذه الحالة، تشرع الرقابة العسكرية في التواصل مع هؤلاء المؤثّرين مباشرة، حتى إنها تقوم معهم بدور الرقابة المسبقة فتطالبهم بتقديم أيّ نصّ يكتبونه عن المؤسّسة العسكرية للرقيب العسكري قبل نشره، وقد تقوم بالتحقيق معهم أحياناً.
تقود الصراعات الداخلية في إسرائيل إلى وصول سردية المقاومة إلى الجمهور الإسرائيلي
وهناك عامل آخر يساعد إسرائيل في منع سردية المقاومة من الوصول إلى الجمهور الإسرائيلي، إذ ينظر الإعلاميون في دولة الاحتلال إلى الجيش بوصفه بقرةً مقدّسةً يمنع الاقتراب منها، ومن ثمّ فإنهم، وحسب الناشط الاجتماعي هرئيل بريمارك، حينما يتعاملون مع ما يخصّ الأخبار العسكرية، لا يتعاملون معها على أنهم كلاب صيد، بل كلاب أليفة، فلا يطرحون الأسئلة الصعبة التي تساعد في فهم حقيقة ما يحدث، أو إنجازات الجيش الحقيقية وتعثراته. وبالتالي، فلا غرابة أن تظلّ غالبية الإسرائيليين على قناعة بأن الجيش الإسرائيلي انتصر في غزّة، وحقّق أهدافه من الحرب، وأن الفشل الحادث هو نتيجة عدم استثمار السياسيين نجاحات الجيش بوضع تصوّرات "اليوم التالي" للحرب، وهكذا تصبح أصوات يتسحاك بريك وأمثاله ممن يتحدّثون عن فشل الجيش في غزّة نشازاً. ولعلّ أحد الأسباب التي تعمّق السكوت عن فشل الجيش الإسرائيلي في غزّة أن كثيراً من الصحافيين، وحتى الباحثين في مراكز الدراسات الكبرى، هم في الأصل عسكريون سابقون؛ وكثير منهم يكتبون لتفنيد السردية الفلسطينية خوفاً من تأثيراتها في الرأي العام الإسرائيلي؛ مثل ما فعل المقدّم احتياط يوناثان دحوح هاليفي، الباحث في مركز القدس للشؤون الخارجية والدفاع، في نقده وثائقي "ما خفي أعظم" الذي بثّته قناة الجزيرة، وفي اعتباره عملاً دعائياً للتأثير في الرأي العام العالمي، وغسل أيدي حركة حماس من الدماء التي سفكتها في 7 أكتوبر/تشرين الأول (2023).
غير أن هذه المحاولات كلّها لم تمنع من وصول جزء من سردية المقاومة إلى الجمهور الإسرائيلي، وساعد في ذلك أن حزبي الصهيونية الدينية بقيادة سموتريتش، وعوتسماه يهوديت بقيادة بن غفير، لديهما موقف معادٍ لقيادة الجيش، ويتهمانها بالفشل، ولذلك، تعمّدت بعض الصحف التابعة للحزبين نشر مقاطع تسليم الأسرى الإسرائيليين التي بثّتها كتائب القسّام؛ وتساءل الصحافي في صحيفة سروجيم (التابعة للصهيونية الدينية) أرييه يوئيلي إذا ما كانت حركة حماس تريد من هذه المقاطع إظهار قوتها وسيطرتها على القطاع، فيجب أن نسأل أنفسنا "كيف تمتلك حماس بعد 477 يوماً من الحرب سيّارات ودرّاجات بخارية تبدو وكأنّها خرجت للتو من وكالة... وأن تتمكّن من إخراج هذا المشهد بمعدّات حديثة في هذا النحو".
هكذا تقود الصراعات الداخلية في إسرائيل بين التيّارات السياسية المختلفة، أو بين السياسيين والعسكريين، إلى وصول سردية المقاومة إلى قطاعات كبيرة من الجمهور الإسرائيلي، فيدرك الإسرائيليون تدريجياً أن الحرب التي كلّفتهم آلاف الأرواح، وعشرات المليارات من الدولارات، استمرّت 15 شهراً من دون تحقيق ما أرادته إسرائيل، وهي سردية تكسب أرضية جديدة مع الوقت، رغم وسائل المنع كلّها، فتنجح في إثبات الإخفاقات الإسرائيلية، وإن فشلت في كسب التعاطف.
