أينما ينظر المرء يرى مذبحة في أرضهِ، واستماتةً في الفضاء الثقافي العام لغلقِ الأفق أمام الأسئلة الجديدة التي يفجّرها الواقع الجديد يوماً بعد آخر. القتل والاستباحة شمِلا فلسطين ولبنان وسورية، ولا يعرف المرء إن كان ما يحدث في هذه المنطقة هو لعنة الجغرافيا، أم لعنة الثقافة، أم لعنة الأرض نفسها، ببشرها وحجرها وأشجارها، فكلُّ ما فيها هدفٌ للموت، وكلّ مَن فيها مشروع لاجئ.
مع ذلك، تبقى الأسئلة ملحّة أمام ما يجري من حولنا، أو ما يجري معنا أساساً. وأظن تلك الرغبة في وأد السؤال أمام قلق الواقع الجديد، تجيء - إذا أرادَ المرء أن يُحسِنَ الظنّ - من تَعبٍ مديد شملنا جميعاً، وكأنّما بعد سنوات القتل السورية الطويلة أصبحنا نريد الوصول إلى ضفة ما، كيفما اتفقَ الوصول، وأينما حللنا، وبصرف النظر عن الضفة التي وصل إليها هذا الجمعُ الذي يشكّل ملايين البشر العالقين في ظرف الحرب، وهدر كرامة البشر وحقوقهم، ووعيهم بإنسانيتهم.
وهذا الوصول المُتَوَهَّم، أراه تصوّراً حالماً عن الواقع. وأكثرَ من ذلك، أخاله تصوّراً قاصراً عن فهمٍ - لا أدّعيه - لما نحن عالقون فيه، ومقبلون عليه من احتمالات سياسيّة جذرية، ولا يسعُ المرء أن يشعر برفاهية الوصولِ إلى هدف، أو بلغة أصحاب الأمر "انتهاء الثورة". اعتباراتٌ كثيرة تعيقُ وتمنع هذا الاستنتاج، اعتبارات تجيء من الواقع عينه، لا من النظريات فحسب. ولا أظن أنَّ لملمةَ الواقع المتفجّر كيفما اتفق سلوكٌ يصلح للبناء والتغيير. ببساطة، لأنَّ كلَّ ما يحدث يختزن في الضمير العام، في ثقافة الجماعة، وفي عزم الفرد.
أمام الواقع، أليسَ من حقّ كل سوري أن يقلق على الغد؟
ليسَ مفاجئاً ضمن اعتبارات الإقصاء والنفي واختطاف سورية والسوريين لعقود، أن يخرج كُتّابٌ بنظريات عن الوصول إلى الهدف الذي كانوا ينشدونه من الثورة، وهو إسقاط نظام الأسد، بذاته، لا إنجاز الانتقال الديمقراطي. لكن أخشى القول، إنَّ هذا الاعتقاد ببلوغ الهدف، قولُ مُترفٌ ليسَ لجموع السوريين رفاهية تبنيه؛ لأنَّ واقعهم ما يزال مغلقاً، كما أنَّ عدداً من النخب التي بنت مشروعها كاملاً على فكرة وحيدة البعد، وهي إسقاط نظام الأسد، ما تزال غير مدركة لحقيقة سقوطه، أمرٌ يشعر به المرء من اقتصار أجوبتهم على الماضي، وكأنما خرج السوريون من الماضي، لكن لا إلى المستقبل، إنَّما إلى الماضي أيضاً، وهذا اعترافٌ شاقٌّ قوله، خاصة بالنسبة إلى مَن آمنوا بالثورة، وراهنوا عليها.
يُقدّر المرء أن تُحرِّم الجموع على الفرد أن يسأل، وأن يقلق، خاصة مع شعورٍ عام باستعادة البلد، لكن يصعب تقدير موقف المثقف/ الكاتب الذي يمنع السؤال عن الآخرين، فالسؤال منوطٌ بالثقافة نفسها اليوم، خاصّة عندما تكون بلا تأثير على الواقع نفسه. أقصد أنَّ الواقع السوريّ قدَّم أجوبته بطريقة ما، سواء بعوامل داخليَّة أم بفرض قوى إقليمية، وما من أحد يقدر أن يجزم اليوم. بالنتيجة، الواقعُ فرض أجوبته بمعزل عن النخب، وسياقُ القتل المديد فرضَ مآل هذه الحكاية التي ينزّ الدم والظلم من كلّ جوانبها.
لم يأخذ الواقع السوريّ جواباً عرضه مثقف، أو كتبه روائي، أو رسمته مخيلة شاعر، ولا يملك المرء أمام السردية العنيفة القاسية للمأساة السورية، إلا أن يسلّم بأجوبتها، وبعدم فاعليته في تحقيق الواقع الجديد. مع ذلك، يبقى مشروعاً لنا أن نسأل اليوم وغداً، وأن نقلق، وأن نتساءل عن المستقبل، لأنَّ الماضي استنزف قوانا، وهدم أعمارنا.
أيضاً ثمّة مذهبان في الثقافة أحدهما يعتقد أنَّ على المثقف أن يجيب عن أسئلة الواقع، وآخر يرى أنَّ على المثقف أن يسأله، كي يحرّك ما قد يصيبه من استنقاع واستكانة، فكيف أمام راهنٍ سوريّ معقّدٍ وإشكاليّ ومتفجّر بالمذابح والقتل؛ أليسَ من حقنا أن نقلق على الغد؟
* روائي من سورية
