إلزامية الجغرافيا السورية وقَدَرها

منذ ١٥ ساعات ٢٢

من الصعب فهم جوهر الجغرافيا السياسية في المشرق العربي، شمالي شبه الجزيرة العربية، بمعزل عن فهم دور سورية فيه، وذلك وفق الحدود المعترف بها دولياً، لها ولمحيطها الإقليمي. يُفسّر ذلك التسارع في علاقة الخارج مع سورية وعلاقة سورية مع الخارج، بما يشير إلى وجود فهمٍ متبادلٍ للمصالح المتبادلة. منذ إسقاط نظام بشّار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2025، تبدو سورية وكأنّها في رحلة مستعجلة للتصالح مع المجتمعين العربي والدولي، وفق مفاهيم متّصلة حُكماً بتأمين التمويل للمرحلة السياسية الحالية، بما يسمح بنشوء استقرار يُفضي إلى ترسيخ طبيعة النظام الجديد ومرونته مع العالم.
ومع أن الوقائع السياسية فيما يتّصل بشرق الفرات تتطور بوتيرة سريعة، لكن ذلك لا يُعدّ كافياً بمعزل عن التفاهمات في الجنوب، من السويداء إلى الجولان، أو في الساحل. لا تسمح الطبيعة الجغرافية السورية بانعدام التوازن بين الجغرافيات، التي صودف أن أقلّيات تتمركز فيها، ولا في تغليب منطقة جغرافية على أخرى في الداخل السوري. يعني ذلك أن وحدة الأراضي السورية وتوازن نموّها، الذي لا يعني تغييب المحاسبة، بل إن محاسبة أركان النظام السابق أساس لبناء دولة جديدة، تسمح في إرساء النموّ الاقتصادي المطلوب إقليمياً قبل أن يكون سورياً.
إذا وُضعت النوازع الطائفية جانباً، فإن الجغرافيا السورية ترابط خطوط مواصلات إلزامية للمشرق العربي كلّه. واستطراداً، بين شبه الجزيرة العربية وأوروبا. يعني ذلك، في مكان آخر، الحاجة المتبادلة لهذا المشرق إلى علاقة اقتصادية تصاعدية مع تركيا. لكنّ ذلك موضوع آخر. إزاء هذه الطبيعة السورية، يُصبح أيُّ شعار سياسي، وحتى طائفي، معرّض للموت التاريخي. وكلّما كان الشعار متشدّداً أصبح سقوط الحاكم أسرع. لكنْ في المقابل، مثلُ هذه الطبيعة مُعرّضة للاهتزاز في حالة غياب التوازن بين ما تحتاج إليه سورية دولةً، ودورها خطَّ ترانزيت، وقدرتها محطّةَ تصنيع. في تلك المواضع كلّها يُصبح لزاماً على السوريين الانتقال إلى مرحلة تقرير خطوات الفترة المقبلة، ذلك لأن سورية قادرة على أداء دور المحرّك الاقتصادي للمحيط، من دون السعي إلى صياغة دور تسلّطي على دول الجوار. فعلها الأسد مع لبنان خصوصاً، وأدّى ذلك إلى نشوء علاقات مضطربة بين شعبَين في بلدَين، لا تشبه غيرها في العالم.
وهنا، لا يبدو الأوروبيون بعيدين من إدراك جوهر سورية الجغرافي، وإن كانوا مدفوعين بسلبيات الرسوم الجمركية التي أقرّتها الولايات المتحدة، لكنّهم في الوقت نفسه لا يرغبون في فتح الخزنات أو الاستثمار في سورية، ما لم يكن السوريون يعلمون أن إسقاط أيّ نظام مهما تجبّر، يبقى أسهل من إسقاط ذهنيته، مهما كانت بسيطة. ذهنية نظام الأسد مبنية على ثلاث ركائز. الركيزة الأولى، السير على حافَة الهاوية من دون السقوط فيها. والركيزة الثانية، قمع الشعب بعناوين طائفية ومناطقية ومذهبية واستيلاد الخلافات بين السوريين. والركيزة الثالثة، التذلّل للدول الأقوى وإخضاع الدول الأضعف.
ومع أن النظام السوري الحالي لا يزال يتلمّس طريقه في طريقة حكم الجغرافيا السورية برمّتها، بعناوين مختلفة عن التي حكمتْ بها محافظة إدلب سابقاً، لكن الانتباه إلى مفهوم الإسراع في التصالح مع دول الجوار، يتطلّب أيضاً التحرّر من ذهنية نظام الأسد، لأن في ذلك عوداً على بدء، وفي وقت أقرب ممّا يمكن تخيّله. لا يحتاج الأمر إلى تصريحات أو تشكيل لجان، بقدر ما تستوجب مثل هذه الأوضاع ترتيب مصالحات شاملة مع المحيط الإقليمي، وإنهاء الخلافات، بدءاً من نقاط متنازع عليها في الحدود، وصولاً إلى ضرورة تشكيل أسواق مشتركة، والضرورة هنا حاجة أساسية لشعوب المشرق العربي، وإلا فإنه من السهل أن تستولد البطالة فِرقاً مسلّحةً وإرهابيين وعصابات. قد يكون ذلك كثيراً، لكن تاريخ سورية وجغرافيتها، يفرضان الاستعجال في عالم يُولد من حرب الاقتصادات.

قراءة المقال بالكامل