تواجه العائلات في قطاع غزة أزمة حادة في السكن بسبب الدمار الهائل الذي طاول عشرات آلاف المنازل، ما أدى إلى ارتفاع "جنوني" في أسعار إيجارات الشقق والعقارات القليلة المتبقية في المنطقة الخارجة للتو من حرب إسرائيلية هي الأعنف والأقسى.
وتفاقمت الأزمة بعد وقف إطلاق النار، حيث عاد نحو 600 ألف من النازحين جنوباً إلى بيوتهم المدمرة وغير الصالحة للسكن في محافظتي غزة والشمال، ما اضطرهم إلى مواءمتها أو العيش داخل خيام، أو البحث عن شقق لاستئجارها، وقد اصطدم كثيرون بأسعار الإيجارات المضاعفة والشروط التي تفرض عليهم.
وبينما يبحث النازحون عن مأوى، استغل بعض ملاك العقارات هذه الحاجة برفع الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة، ما جعل الحصول على سكن مناسب تحديا كبيرا، في الوقت الذي يطلب الملاك آلاف الدولارات لقاء تأجير عقاراتهم، وهي أسعار تفوق القدرة والتوقعات.
إيجارات لندن
كان متوسط إيجار شقة صغيرة في مدينة غزة قبل العدوان الإسرائيلي يتراوح بين 150 و300 دولار شهرياً من دون خدمات حكومية، حسب الموقع والمساحة، وبعد تدمير جزء كبير من البنية السكنية وصل إلى أكثر من 80%، قفزت الأسعار إلى أرقام صادمة، حيث تطلب بعض الشقق إيجارات تصل إلى ألف أو حتى ألفى دولار شهريا، وهو ما يقترب من معدلات إيجارات شقق في لندن، وهو رقم يعادل رواتب عدة أشهر لكثير من العائلات الفلسطينية.
ولم يراع بعض الملاك الظروف القاسية التي يعيشها السكان بفعل التدمير ورحلة النزوح القاسية، بل استغلوا الوضع لزيادة الأسعار من دون مبرر حقيقي سوى قلة المعروض وارتفاع الطلب.
وتختلف العروض والشروط التي يضعها الملاك لتأجير عقاراتهم، فمنهم من يشترط دفع إيجار 6 أشهر أو سنة مقدما لضمان عدم فقدان الشقة، مع إجبار المستأجر على الخروج في أي لحظة يفرضها المؤجر، ما يضع المستأجرين في موقف صعب، خاصة مع تردي الأوضاع الاقتصادية وانعدام فرص العمل.
عقود جديدة
تخطى بعض الملاك تلك الشروط بمراحل، عبر إلزام المستأجرين القدامى "من قبل الحرب" بدفع إيجارات جديدة مرتفعة تتناسب مع الأسعار الجديدة أو ترك الشقة، فيما اشترط البعض الآخر على المستأجرين الذين اضطروا لترك الشقة والنزوح على وقع القصف أن يدفعوا الإيجار بأثر رجعي "دفع إيجار لقاء طول فترة النزوح ويصل إلى أكثر من ألفي دولار"، بحجة عدم قدرة المالك على التصرف في عقاره خلال الحرب نتيجة وجود عفش المستأجر.
ويقول أبو خالد أبو عسكر، وهو رب أسرة فقد منزله خلال القصف، إنه بحث مرارا عن شقة، وكلما وجد واحدة بسعر معقول، يكون هناك عدة أشخاص آخرين يريدونها، فيرفع المالك السعر فورا، وقد اضطرر لاستئجار شقة صغيرة بألف دولار شهريا، وهو مبلغ لا يستطيع تحمّله طويلا.
ويلفت أبو عسكر لـ"العربي الجديد" إلى أنه لم يعد يحتمل قساوة العيش داخل خيمة، خاصة في ظل الأجواء شديدة البرودة، ويقول: "كنت أتأمل أن أجد بيتي سليما أو أتمكن من مواءمة غرفة فيه، لكنني فوجئت بتدمير منطقة الصفطاوي بشكل كامل، بما فيها بيتي".
وعلى الرغم من المبلغ الكبير الذي أجبر أبو عسكر على دفعه، إلا أنه لا يزال يشعر بالقلق، بسبب لهفة المستأجرين على طلب الشقق، وهو أمر من شأنه أن يغري صاحب العقار بزيادة المبلغ، أو وضع شروط تعجيزية إضافية تضطره إلى ترك البيت دون القدرة على توفير أي بديل.
التهديدات الإسرائيلية
أما الفلسطيني أحمد ثابت، الذي كان يستأجر شقة قريبة من مشروع عامر شمالي مدينة غزة قبل الحرب، فقد اضطر إلى ترك بيته بفعل التهديدات الإسرائيلية والنزوح المتكرر في المحافظات الوسطى والجنوبية. ويقول ثابت لـ"العربي الجديد" إنه بعد وقف إطلاق النار والعودة إلى البيت، اضطر إلى النزوح العكسي مجددا، بعد أن فوجئ بطلب صاحب العقار دفع ثمن إيجار المدة الماضية، بادعاء أنه لم يتمكن من تأجير الشقة أو التصرف فيها نتيجة وجود العفش، وعدم رغبته برمي العفش في الشارع، كما فعل عدد من المؤجرين.
ويلفت ثابت إلى أنه كان يدفع 200 دولار شهريا قبل الحرب، وقد ترك البيت منذ 15 شهرا، وهي الشهور التي طلب المالك دفع إيجارها، ويضيف: "لم أتمكن من الدفع أو حتى نقل عفشي لعدم توفر وسائل نقل بأسعار مناسبة، انتقلت مجددا إلى مدينة دير البلح وأحاول مفاصلة المالك للوصول إلى حل منطقي".
مضاعفة الإيجار في غزة
أما الفلسطينية ملك أبو ناصر، وتعيش مع أطفالها الأربعة وزوجها المصاب في منزل مستأجر بعد فقدان منزلها، فتقول: "المؤجر طلب مضاعفة إيجار المنزل الصغير والمكون من غرفة وصالون وحمام وزارية صغيرة أستخدمها كمطبخ من 250 إلى 800 دولار فجأة، وعندما قلت له إنني لا أستطيع، قال لي هناك عشرات غيرك مستعدون للدفع".
وتنوي أبو ناصر ترك البيت والتوجه للعيش داخل مدرسة نزوح لعدم توفر خيمة، وذلك لعدم قدرتها على دفع المبلغ المطلوب أو حتى نصفه، وتقول: "كنت أحرم عائلتي العديد من المتطلبات الضرورية لدفع الإيجار، وفي حال رفعه إلى هذا الحد لن أتمكن من سداد شهر واحد".
ولا يزال الفلسطيني سامي صيام يبحث عن سكن بعد عودته إلى مدينة غزة، وقد واجه العديد من التحديات في العثور على شقة للإيجار بفعل عدم وجود شقق، أو توافر عروض محدودة وبأسعار باهظة، إلى جانب اشتراط معظم الملاك دفع ستة شهور أو سنة مقدما.
ويبين صيام لـ"العربي الجديد" عدم منطقية الشرط المتعلق بدفع عدة شهور مسبقا وذلك لتردي الوضع الإنساني، وعدم ضمان الوضع الأمني، ويقول: "كيف يمكنني دفع مقدم لستة أشهر في ظل الظروف غير المستقرة واحتمال عودة التوتر، خاصة في ظل اشتراط بعض الملاك عدم إعادة المبالغ حتى وإن تعرضت المنطقة للتهديد".
تجهيزات على حساب المستأجرين
لا يقتصر رفع أسعار الإيجارات على الشقق السكنية الكبيرة أو الصغيرة المجهزة والمشطبة، بل وصل إلى الشقق غير المشطبة والتي يطلب أصحابها من المستأجرين إغلاق نوافذها بالنايلون والشوادر وتجهيز الحمام وتوفير المياه وباقي المتطلبات اليومية على نفقتهم الخاصة، بجانب دفع الإيجار المرتفع.
وكذلك ارتفعت أسعار إيجارات الغرف الصغيرة المتواجدة على أسطح البنايات التي لا زالت قائمة، وأسعار الحواصل (محلات تجارية) التي يمكن استخدامها كغرف معيشية، أو لأصحاب المشاريع الصغيرة الذين فقدوا محالهم ومصادر رزقهم، حيث يطلب في الحاصل الصغير ما لا يقل عن ألف دولار شهريا، بينما كان يؤجر بمائة دولار فقط.
لا يقتصر رفع أسعار الإيجارات على الشقق السكنية الكبيرة أو الصغيرة المجهزة والمشطبة، بل وصل إلى الشقق غير المشطبة
وعلى الرغم من اشتداد الأزمة الخانقة، وزيادة الطلب وندرة العرض، لا توجد حتى اللحظة حلول حقيقية لكبح الابتزاز وضبط الأسعار أو إلزام الملاك بعدم استغلال حاجة السكان، ما يترك الآلاف من الأسر التي فقدت بيوتها فريسة لجشع المؤجرين.
وتعمّد الاحتلال الإسرائيلي تدمير نسبة كبيرة من المباني والبنية التحتية من أجل تحويل القطاع إلى مكان غير قابل للحياة من أجل تنفيذ خطط التهجير لسكانه.
وقال رئيس برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أخيم شتاينر في نهاية شهر يناير/كانون الثاني الماضي، إن "حوالي ثلثَي المباني في قطاع غزة، دُمر أو تضرر بسبب القصف المكثف للجيش الإسرائيلي، وستكون إزالة 42 مليون طن من الأنقاض عملية خطرة ومعقدة"، مضيفا أن الحرب على غزة "قضت على 60 عاما من التنمية". وبيّن شتاينر أنه "من المرجح أن يكون ما بين 65 و70% من المباني في غزة قد دُمّرت بالكامل أو تضررت جزئيا".
وأوضح شتاينر أن "مليوني شخص يعيشون في غزة خسروا منازلهم، وخسروا أيضا البنية التحتية العامة وأنظمة معالجة مياه الصرف الصحي وأنظمة إمدادات مياه الشرب وإدارة النفايات". وذكر تقرير للأمم المتحدة والبنك الدولي، أن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية تقدر بنحو 18.5 مليار دولار حتى نهاية يناير/كانون الثاني 2024.
