يُمكن لمتابعي جولة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في السعودية وقطر والإمارات أخيراً، مراقبة السلوك الإيراني الذي تفاوت بين دعوة الأميركيين (مجدّداً) للمشاركة في الصناعة النووية والاستثمار في بنى الاقتصاد الإيراني، والتشديد على أن ترامب "قاتل" و"على عدم التخلّي عن تخصيب اليورانيوم". تحاول إيران اليوم التصرّف فريقاً يجيد عقد الصفقات، لكنّها غير قادرة على الحصول على صفقة تضمن لها أنها حقّقت "انتصاراً". الانتصار هنا، في حال الاتفاق مع الأميركيين، أن "الشيطان الأكبر" لم يعد شيطاناً ولا "أكبرَ"، بل عاد كائناً لطيفاً كما كان الأمر عليه في 2015. ما الذي يعنيه ذلك؟... يعني أن الشعارات التي يحملها أنصار إيران في العراق واليمن ولبنان ليست شعاراتٍ عقائديةً ثابتةً بقدر ما هي أوراقٌ تفاوضيةٌ متحرّكة. وحين تتم الصفقة تُرمى الأوراق في سلال المُهملات.
لذلك، ستتحوّل لاحقاً إيران، التي ستقبل بما يعرضه الأميركيون في نهاية المطاف، وسترضى بهيمنة أميركية معيّنة، بوابةً أميركيةً إلى الوسط الآسيوي، وستؤدّي دورها، كما هو "مكتوب" في علم الجيوبوليتيك، لاعباً محوريّاً في السياسة الأميركية تجاه غرب الصين. لا يتعلّق الأمر بالمرشد علي خامنئي، ولا بترامب، ولا بالرئيس الصيني شي جين بينغ، بل يرتبط كلّ شيء بالحاجة الأميركية للتمدّد الاقتصادي في كلّ مكان يشعر فيه اقتصادها بالخطر. يكفي النظر إلى مطالب ترامب بتملّك قناة بنما وجزيرة غرينلاند الدنماركية، وبتحويل كندا إلى الولاية الأميركية 51. في كلّ تصوّر يخطّه ترامب هناك نسق اقتصادي متفوّق على ما عداه، ومن المفترض أن الإيرانيين يدركون ذلك، وقد اختبروا ترامب سابقاً في ولايته الأولى، كما أنهم غير قادرين على تحفيز حلفائهم في الشرق الأوسط لشنّ هجمات على المصالح الأميركية، بعد عام ونصف العام من السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023). عملياً، لم يعد أمام الإيرانيين وقت كافٍ لمقارعة ترامب حتى انتهاء ولايته، ولا هم قادرون على المواجهة العسكرية مع الأميركيين، بينما المفاوضات مع مبعوث ترامب ستيف ويتكوف بدأت تقترب من نهايتها. ترامب ليس حائكاً للسجّاد ولا قدرةَ له على الصبر.
الآن، هل تقوم إيران بخطوة، من قبيل قبول مطالب ترامب الجوهرية، مثل التخلّي عن التخصيب العالي لليورانيوم، والتفاوض على الشروط الثانوية، مثل تأمين المستقبل السياسي، لا لعسكري، لحلفائهم في دول الإقليم؟... تعلم طهران أن ما هو معروض عليها ليس ما تطلبه، لكنّها قادرة على الحدّ من الخسائر، والتحوّل إلى الداخل الإيراني. لا تقسيم في المنطقة آتياً، حسبما روّج كثيرون بعد سقوط الأسد في سورية. يكفي أن حزب العمال الكردستاني أنهى مساره العسكري. الإيرانيون ـ الفرس في التاريخ أذكياء، لكنّهم في المقابل لا يمنعون أنفسهم من مغامراتٍ مجنونة، كما فعل داريوس الثالث مع الإسكندر المقدوني.
لا تتوقف المسألة عند هذا الحدّ. يعلم الإيرانيون أن أيّ اتفاق مع الأميركيين سيكبّلهم حيال التحرّك (ولو السياسي) لتسجيل موقفٍ متعلّق بوضع داخلي في بلد مجاور، أو في الإقليم. سيعاني الإيرانيون بعض الشيء لفهم حقيقة وجودهم دولةً ضمن جغرافيا معيّنة، لا أمّةً تسعى إلى التمدّد غرباً. في المقابل، البديل من ذلك لا يكون بالضرورة حملةً عسكريةً. العقوبات وحدها قادرة على زعزعة بنيان أيّ بلد. شوارع طهران شاهدةٌ على الأفراح وأصوات أبواق السيارات الصادحة بعد توقيع اتفاق 2015. وأيّ تشديد للعقوبات على إيران، يُصبح معها مستقبل أيّ ثورة غير مضمون، ولو أن ترامب نفسه لا يرغب في تغيير النظام الإيراني، بل "سلوكه" فقط.
أحياناً، تخرج الأوضاع عن السيطرة. صحيحٌ أن ويتكوف يراهن على عقد اتفاق مع إيران قبل وقف حرب أوكرانيا، لكن الصحيح أيضاً مراقبة ما الذي ستتنازل عنه إيران، وحجمه. في ذلك أهمّ تحوّل سياسي لنظام ثورة 1979، فإمّا أن يجدد ذاته بشروط أميركية أو يفنيها بشروطه.
