بعد الأسى العميق، الذي خلّفه رحيل ديفيد لينش (16 يناير/كانون الثاني 2025) بين مُحبّيه، وسيل من تدوينات سينمائيين تتفكّر في إرثه وأثره الملهم، يُنتظَر تنظيم عروضٍ لأهمّ أفلامه، احتفاءً بذاكرة ومُنجز فيلميّ هائل بتفرّده وتأثيره الشاسع، الممتدّ في المكان والزمان. أعادت صالات باريسية برمجة تحفته المطلقة "مولهولاند درايف" (2001)، وتنظيم عروض استرجاعية لأفلامه في صالة "بليموث" بمينيسوتا، في فبراير/شباط ومارس/آذار 2025.
لعلّها فرصةٌ لـ"إعادة" اكتشاف "لينش/أوز" (2022)، لألكسندر أ. فيليب، الذي لم ينل ما يستحقّ من العرض والإشادة. يتجاوز الفيلم سبر تأثير "ساحر أوز" (1939)، الفيلم الكلاسيكي لفيكتور فليمنغ، على لينش، ليرسم في 108 دقائق صورة فسيفسائية لخريطة مخيال المخرج الغرائبي، بتشريح مئات المقاطع من أفلامه (ولوحاته التشكيلية) في تقاطعها مع "ساحر أوز"، برؤية ستة سينمائيين (نقّاداً ومخرجين)، انطلاقاً من جواب لينش على سؤال أحدهم، إثر عرضٍ لـ"مولهولاند درايف" بـ"مهرجان نيويورك للفيلم": "لا يمرّ عليّ يومٌ من دون أنْ أفكّر في ساحر أوز".
ينتمي "لينش/أوز" إلى مفترق طرق بين وثائقيّ التحقيق وفيلم التفكّر (Essai)، في ستة فصول تمزج، بشكل جذّاب وسخيّ، بين ذاتية رواتها، الذين ينطلقون من ذكريات طفولتهم مع كلاسيكي فليمنغ، وتقاطع منجزهم مع صُوره وتيماته، ليغوصوا شيئاً فشيئاً في رؤيتهم للعلاقة الملغزة بين جائشة مخرج "الرجل الفيل" (1980) وأجواء قصة ليمان فرانك بوم، أول قصة تخييلية أميركية وُجّهت إلى الأطفال خصوصاً، لتغدو من الأكثر شعبية في أميركا، وتخلب ألباب الكبار، مُنتجةً سلسلة لا تنتهي من الاقتباسات للسينما والمسرح والبرامج التلفزيونية، وتترسّخ في المخيلة الشعبية عامة، والهوليوودية خصوصاً، إلى درجة أنّ باحثين في جامعة تورينو حلّلوا بيانات 47 ألف فيلمٍ منتمٍ إلى 26 نوعاً، فخلصوا إلى أنّ "ساحر أوز" أكثر الأفلام تأثيراً متفوّقاً على "حرب النجوم" (سلسلة جورج لوكاس بدءاً من عام 1997) و"2001: أوديسا الفضاء" (1968) لستانلي كوبريك، و"كينغ كونغ".
يذهب التحليل إلى أبعد من الحوافز البديهية في سينما لينش، المُثارة في الفصل الأول "ريح" من الناقدة إيمي نيكولسون، كحضور خطوط الطريق الصفراء إشارة إلى "سبيل الطوب الأصفر" المؤدّي إلى أوز، أو عودة الستائر في جلُ أفلام الجهبذ الأميركي كانعكاس للخدعة التي يختفي وراءها ساحر أوز، باعتبارها استعارة عن الخداع الكامن في قلب مقارباته الفنية، ما يفسّر ربما إحجامه المبدئي عن التعليق المُفصّل على أفلامه، ورفضه القاطع شرح أبعادها الموضوعية. هناك أيضاً الأحذية النسائية الحمراء، ذات الكعب العالي، التي توحي بالحنين للعودة إلى المنزل، كشعور لينشيّ بامتياز، نظراً إلى تحبيذه البقاء ببيته، والانشغال بالإبداع والاشتغال اليدوي في محترفه، أو بتعبيره عنه من خلال شخصيات أفلامه، وفي مقدّمتها العميل كوبر في "توين بيكس" (1992)، أو الزوجان سايلور ولولا في "وايلد ات هارت" (1990).
لكنّ الجانب الذي استأثر بالجزء الأكبر من التحليل، انطلاقاً من رواية رودني آشر (مخرج "الغرفة 237" في تأويلات "ذا شاينين")، كيفية استلهام لينش بنية حكي "ساحر أوز"، التي تُستهلّ بحياة دوروتي البريئة والبسيطة بكانساس، ليقود تعرّضها لإصابة في الرأس، إثر إعصار عنيف، إلى رحلة في عالمٍ مُواز، ولقائها شخصيات قرينة (Doppelgangers) لأشخاصٍ من العالم الأصلي، تستفيق بعدها في منزلها، بعد مسار "وراء قوس قزح" (كما تقول الأغنية الشهيرة)، يبدو كحلم/كابوس لكنّه أكثر حقيقية من الواقع نفسه، نستكشف بفضله وجه العملة القاتم للحياة في المجتمع الأميركي.
هذه لازمات تعود في أشكال وتنويعات مختلفة، خصوصاً في "المخمل الأزرق" (1986)، و"توين بيكس" و"مولهولاند درايف"، مع تبئير خاص من آشر على المشهد الشهير من هذ الأخير، لتداخل واقع رجل مع كابوسه حول لقائه بصورة مفزعة لرجل متشرّد وراء مطعم "وينكيز". مشهد مفصلي يعود في فصل رابع بعنوان "تعدّد"، قد يكون قلب الفيلم، وأكثر أجزائه تكاملاً. ليس فقط لأنّه يُقدّم إحدى أجمل وأبرع القراءات في "مولهولاند درايف"، بل لأنّه يقبض بلغة الصُوَر والمرجعيات على فكرة تجذّر مخيال لينش في اللاشعور، وكيف أنّ "ساحر أوز" طبع مُنجزه بشكل يتجاوز العقلانية، ليعانق بعد تأثّره بفلسفة التأمّل المتسامي، وطرحها حول تجاور الخير مع الشر، وكيف أنّ كلاً منهما لا يُمكن أن يُستشعر إلا بتلازم مع الآخر، ثمّ التعدّد الراسخ في شخصيات المخرج (وبالضرورة في داخله)، بالطريقة نفسها التي تحمل بها دوروتي، من دون أنْ تعي ذلك، شيئاً من الأسد الجبان، والحطّاب القصديري، ومن الساحرتين الشريرة والخيّرة عل حدّ سواء.
يحتوي الفيلم كذلك على فصلين للمخرجين روجر واترز وديفيد لوري (قصّة شبح). الأول قصير نسبياً، بعنوان "قرابة"، يُعبّر فيه واترز، مُتسلّحاً بسخريته اللاذعة، عن تأثير "ساحر أوز" على أفلامه، مُعرّجاً بين الفينة والأخرى على علاقته الخاصة بلينش، ودفاعه عن أفلامه منذ "رأس ممحاة" (1977) إلى الجزء الثالث من "توين بيكس"، الذي يعدّه أفضل أعماله على الإطلاق، ومُخصِّصاً حيّزاً مُهمّاً للاحتفاء بشخصية ساحرة أوز، وإعجابه بمؤدّيتها مارغريت هاميلتون.
أما لوري، فيستعير بلاغة "الحفر" ليُعبّر عن مقاربة لينش في النبش وراء الأفكار نفسها، وكيف تُعدّ علاقته المصفوفية بـ"ساحر أوز" أفضل تجسيد لمفهوم الهوس بتفاصيل بعينها (يُقدِّم مَثَلين: علاقة هيتشكوك بالعصافير، وتواتر الطرق المتعرّجة في أفلام كيارستمي)، والنبش في حدودها عبر ابتكار تنويعات جديدة وأشكال متنوّعة في كلّ مرة، مُعتبراً أنّ ذلك يفتح آفاقاً غير محدودة للإبداع، بدلاً من أنْ يغلقها كما يتبادر إلى الذهن. ولعلّ هذا سرّ عوالم لينش الساحرة، والجسور اللامتناهية بينها، التي لا تفتأ تخلق تأويلات مختلفة، ونقاشات لا تنضب.
