أدى ظهور دور نشر جديدة ذات طموح عريض واطلاع كبير على الإصدارات الأجنبية، إضافة إلى ترسّخ حركة النشر الإلكتروني في العالم العربي، إلى اتساع دائرة الروايات العربية المصحوبة بالصور. ومن ذلك مثلًا الطبعات الجديدة من روايات نجيب محفوظ عن دور النشر "هنداوي" و"ديوان" و"الشروق"، برفقة لوحات فنانين متنوعين، منهم حلمي التوني، ومحمد حجي، ويوسف صبري، وغيرهم.
ولم تعد النماذج الملموسة لهذه الظاهرة الجديدة قليلة في الروايات العربية، منها على سبيل المثال لا الحصر رواية "استخدام الحياة" للمصري أحمد ناجي (دار مرسوم للنشر والتوزيع)، التي تندرج ضمن أدبيات الديستوبيا أو المدينة الفاسدة والمجتمع الفوضوي الذي يحكمه الشرّ المطلق، وتستخدم في سردها وحوارها مزيجًا من العربية الفصحى، والعامية المصرية الدارجة.
بعيدًا عما أحدثته هذه الرواية من جدل لجرأة مضمونها وعباراتها إلى درجة ملاحقة مؤلّفها ومحاكمته قضائيًّا بتهمة خدش الحياء العام، فإنّها تتضمن رسوماً داخلية صممها الفنان أيمن الزرقاني، لتصاحب الشخصيات والأحداث والمشاهد السريالية خصوصًا. ويتفق المؤلف والرسام في أن تدعيم القصص بالصور يزيد فرصة المتلقي في فهم تشوّهات الشخصيات، ليكون شريكًا في الحكاية، ومنخرطًا فيها، وليس مجرد قارئ سلبي أو اعتيادي.
تضيف نصّاً بصريّاً مستقلّاً يوازي النص الأصلي المكتوب
هذه الرسوم والتصميمات المُصاحبة للعمل الأدبي، والتي تتمدّد في فضائه الداخلي بالكامل ولا تقتصر على الغلاف، تضيف نصًّا بصريًّا مستقلًّا يوازي النص الأصلي المكتوب، بل يتقاطع معه ويشتبك مع تفاصيله، انسجامًا واتفاقًا بدرجة، أو تنافراً واختلافاً بنسبة.
تحدث هذه الثنائية دائمًا بشكل أو بآخر، بغض النظر عمّا إذا كان مؤلّف العمل ورسّامه فردًا واحدًا، أو أنهما شخصان مختلفان. وترجع الثنائية أو الازدواجية هنا في المقام الأول إلى تباين الوسيط التعبيري وتمايز دلالاته التوصيلية والتأثيرية، فما تفجّره الكلمات لا تترجمه الصورة حرفيًّا بطبيعة الحال، والعكس صحيح بعدم قدرة الكلمات على احتواء مضامين الصور وإيحاءاتها.
في الأدب العربي الراهن، تبدو هذه الرسوم المصاحبة والصور الداخلية أكثر حضورًا وانتشارًا واستساغة في دواوين الشعر، ربما لوجود قاسم مشترك بين القصيدة واللوحة، هو الغموض الشفيف، وربّما لأنّ المعاني النصية غير المكتملة عادةً، بحاجة إلى ملء فراغاتها أحيانًا، أو للقناعة بأن القصيدة هي بحد ذاتها لقطة تصويرية أو مجموعة لقطات مكثفة.
تمثّل هذه الرسوم المصاحبة أيضًا العمود الفقري في أدب الأطفال، لما لهذا الأدب من طبيعة خاصة. ومع كل مرحلة عمرية، يحتاج الطفل إلى نمط من الصور والأشكال التوضيحية التي تتخلّل القصص، لتجتذب حواسه، وتساعده على التركيز، وتخيّل الشخصيات، واستيعاب الأحداث والتفاعل معها بطريقة إيجابية.
ولكن، ماذا عن حضور الرسوم الداخلية، وتوظيفها فنيًّا، في الروايات العربية الموجهة للكبار؟ هذا هو السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح في هذه اللحظة، وذلك بعدما بدأت تتسلل هذه الرسوم أخيرًا إلى عدد غير هين من الروايات الجديدة المتحققة في المشهد.
تستند إلى معطيات تراثية تخصّ السرديات العربية والعالمية
وتأتي ظاهرة انتشار الرسوم المصاحبة للروايات، انطلاقًا نحو التطوير والتجريب في الفلك الروائي والتأثر بفنون معاصرة من جهة، واستنادًا من جهة أخرى إلى معطيات تراثية تخصّ السرديات العربية والعالمية القديمة، التي طالما تعانقت كلماتها ورسومها معًا في المخطوطات والمطبوعات المتتالية عبر العصور.
من النماذج الناضجة أيضًا مجموعة روايات الكويتي سعود السنوسي، بمصاحبة رسوم التشكيلية الكويتية مشاعل الفيصل. وأحدثُ هذه الأعمال التي تجمعهما معًا ثلاثية "أسفار مدينة الطين"، ومن قبلها روايات "فئران أمي حصة"، و"حمام الدار"، و"ناقة صالحة"، وغيرها.
في هذه الروايات التي تشتبك مع إحداثيات الواقع وتستند إلى خرائط التاريخ أحيانًا، قد تستكمل الصور صراحة ما يرمز إليه النص الروائي في إشارة جزئية أو يوحي به همسًا أو ضمناً. كما قد تأتي الرسوم بوجهة نظر أخرى، كخيال بصري موازٍ مستقلّ في تأويل الأحداث. وهذا الأمر يثري احتمالات التلقي، ويخلق وجهات نظر متنوعة لدى مجتمع القارئ الواعي.
ومن ثم، ينظر كل من المؤلف والرسامة الكويتيين إلى نفسه، وإلى الطرف الآخر، على اعتبار أنهما توأمان، تجمعهما الغرائبية الفضفاضة في نسجهما الإبداعي معًا على نول واحد متمرد. ولكن، لا يُشترط أن تتطابق رؤيتاهما حول النص، فلكل منهما تصوراته ووثباته الجامحة في التعاطي مع العالمين، المعقول واللامعقول.
وكان الفنانون، باختلاف تياراتهم وأساليبهم، قد تباروا في تجسيد عوالم محفوظ واستقصاء فضاءاته الثرية، الواقعية والفانتازية والأسطورية على السواء، وتوصيف ملامح شخصياته، الظاهرية الجسدية والداخلية النفسية في آن.
ولقد عرفت روايات محفوظ الرسوم المصاحبة مبكرًا أيضًا في حالات استثنائية، وذلك عند نشر بعضها للمرة الأولى في حلقات مسلسلة في الصحف، كرواية "بين القصرين" التي نُشرت في مجلة "الرسالة الجديدة" في خمسينيات القرن الماضي، بمصاحبة رسوم التشكيلي الحسين فوزي.
بدوره، فإن الروائي المصري صنع الله إبراهيم قد آثر عند نشر روايته "67" بعد قرابة نصف قرن على كتابتها عقب هزيمة يونيو/ حزيران 1967، أن تكون طبعتها الحديثة الصادرة عن دار "الثقافة الجديدة" للنشر مصحوبة بغلاف للفنان أحمد اللباد، وبرسوم داخلية أيضًا للفنان نبيل تاج. وخاضت دور نشر أخرى، مثل "نهضة مصر"، و"الأحمدي"، و"الهلال"، وغيرها، تجارب مشابهة، بنشر طبعات من بعض روايات المصري جمال الغيطاني مصحوبة برسوم داخلية تتلمس أغوار عوالمها، وسمات شخصياتها التاريخية والشعبية.
تبقى الإشارة إلى عاملين آخرين مهمين أثّرا في زيادة هذا الانفتاح الروائي على الرسوم الداخلية والصور المصاحبة للنص. أوّلهما، أن الرغبة في التطوير والتجريب لا تقف عند حد، الأمر الذي دفع الروائيين ودور النشر إلى الاقتراب من فنون أخرى عصرية أو التزاوج معها بشكل أو بآخر من خلال الرسوم والأشكال المرفقة بالنص، كفنون الكوميكس مثلًا (القصص المصورة)، والرواية الغرافيكية ذات المحتوى الصوري الخالص، والغرافيتي (رسوم الجدران)، وتصميمات الميمز، وغيرها. أما العامل الثاني، فيأتي من إيمان المبدعين ودور النشر على السواء بأن الصور والرسوم المصاحبة للقصص والروايات هي ظاهرة ذات جذور عميقة متأصلة في التراث العربي، وفي الثقافة الإنسانية كلها. وبالتالي، فإن عودتها اليوم على هذا النحو تخدم جيدًا فكرة ربط الأصالة والمعاصرة في منتج إبداعي مبتكر.
وتحفل المخطوطات والمطبوعات المتتالية لأيقونات الإبداع العربي والعالمي بكثير من الصور والرسوم المصاحبة، التي جاءت انعكاسًا للنصوص والحكايات والشخصيات المكتوبة على مخيلة كبار الفنانين من سائر أرجاء العالم، في حقب متلاحقة. وعلى رأس هذه الكلاسيكيات الخالدة "إلياذة" هوميروس الملحمية، وكتاب "ألف ليلة وليلة" بنسخه وترجماته المتعددة، وقصص "كليلة ودمنة" المصورة بلغاتها المتنوعة، ورواية "دون كيخوته" للإسباني ثربانتس، وغيرها.
هذه الأعمال الأدبية، التي تجمع بين النصوص والرسوم، تظل شاهدة على قوة التفاعل بين الكلمة والصورة، وكيف يمكن لهذا التزاوج أن يخلق تجربة قراءة غنية وممتعة، تعزز من فهم النصوص وتضيف إليها أبعادًا جديدة.
* شاعر وصحافي من مصر
