أظهر جهاز الإحصاء الحكومي في مصر انخفاضاً كبيراً في معدلات التضخم لشهر فبراير/ شباط الماضي فاقت 50%، على أساس سنوي، عن السائدة في يناير/ كانون الثاني 2025.
أوضح البيان الشهري لجهاز الإحصاء أن أسعار المستهلكين بالمدن سجلت انخفاضاً من 24% في يناير/كانون الثاني إلى 12.8% في فبراير، لتصل إلى أدنى مستوى لها منذ فبراير 2022، الذي أعقبه صعود هائل في معدلات التضخم، متجاوزاً 41%، متأثراً باندلاع الحرب في أوكرانيا والتراجع الكبير في الاحتياطي النقدي وتسرب 22 مليار دولار من استثمارات الأموال الساخنة خلال خمسة أسابيع من البنوك إلى الخارج، مع اضطراب حركة الشحن وسلاسل الإمداد.
جاء الانخفاض بمعدلات تفوق كافة التوقعات التي طرحها -على مدار الأيام الماضية- محللون متفائلون بتحسن الأوضاع الاقتصادية، وإن جاءت مرهونة بمدى توافر العملة الصعبة وتحقيق استقرار نسبي في سعر الصرف، عند المقارنة بارتفاع الدولار في فبراير 2024. وتأمل الحكومة أن يسرع البنك المركزي بخفض معدلات الفائدة إلى 16%، خلال الربع الأخير من العام المالي 2024-2025.
رفع أسعار الغاز في مصر
قال الخبير الاقتصادي وائل النحاس إن الحكومة تراهن على خفض معدلات الفائدة والتضخم، بينما تتجه إلى اتخاذ قرارات برفع أسعار الغاز والطاقة، ومزيد من القروض التي تسبب ضغوطاً هائلة على الجنيه المتراجع بوتيرة مستمرة منذ سنوات، مشيراً لـ"العربي الجديد" إلى أن منح البنك المركزي فائدة تزيد عن 30% على سندات الخزانة وأدوات الدين الحكومية، خلال الأسبوع الماضي، لتدبير السيولة التي تحتاجها وزارة المالية، لتمويل المصروفات والمشروعات العامة المفتوحة، تعكس صعوبة قدرته في السيطرة على التضخم وتحد من إمكانية التراجع السريع في معدلات الفائدة في البنوك.
تسرع الحكومة بإجراءات لكبح منحى هبوط الأسعار، عبر التوسع في معارض بيع السلع الأساسية بأسعار مخفضة، بينما تتبنى سياسات مالية تشعل التضخم الذي يحد من قدرة المواطنين على مواجهة أعباء المعيشة، ويرفع تكاليف الإنتاج والتشغيل بالمصانع والشركات.
حسب مراقبين، تختار الحكومة الركود التضخمي، الذي أبقى القطاع الخاص غير النفطي في منطقة نفقه المظلم مدة أربع سنوات متصلة منذ 2020، متأثراً بزيادة معدلات التضخم، وتدهور العملة، وشح الدولار، وارتفاع تكاليف التشغيل وشراء مستلزمات الإنتاج.
غياب الرؤية الاقتصادية
يبقى غياب الرؤية الاقتصادية من أهم المخاوف التي يثيرها المستثمرون والاقتصاديون في قدرة الحكومة على مجابهة التضخم، كما يشير الخبير الاقتصادي رشاد عبده إلى سير البنك المركزي في سياسات للحد من ارتفاع معدلات التضخم باتجاه معاكس لما تتخذه الحكومة من تصرفات.
يقول عبده لـ"العربي الجديد" إن البنك المركزي يحاول عبر أدواته خفض معدلات الفائدة لتشجيع قطاع الأعمال على خفض تكاليف الاقتراض، ما يدفعهم إلى سحب السيولة المتوفرة بالبنوك لتمويل المشروعات الإنتاجية، بما يرفع من معدلات الإنتاج والتشغيل، ومستويات النمو، بينما الحكومة تطلب السيولة النقدية من البنوك، وتشتري الدولار من المستثمرين الأجانب المغامرين بالأموال الساخنة، لتمويل العجز في مصروفات الموازنة العامة للدولة، مقابل فائدة مرتفعة تصل إلى 10% على الدولار و 33% على الجنيه، وفي الوقت نفسه تلجأ إلى رفع أسعار سلع أساسية كالمحروقات والكهرباء والخدمات العامة، بما يشعل الغلاء ويعيد دورة التضخم عند معدلاته العالية.
يؤكد خبير التمويل والاستثمار عدم التناغم بين الحكومة والبنك المركزي، ونهج مسار واحد للسيطرة على التضخم، مع غياب الرؤية الاقتصادية والكفاءات القادرة على تنفيذ السياسيات المالية التي تستهدف الدولة من ورائها إصلاحاً هيكلياً شاملاً للاقتصاد ودفع النمو، بما يعظم الإنتاج الصناعي والزراعي لزيادة الصادرات وخفض الواردات، ويساهم في توفير العملة الصعبة، بدلاً من الإقراض أو بيع الأصول العامة للأجانب.
رغم تراجع معدلات التضخم من 38% في سبتمبر/ أيلول 2023 إلى 24% في فبراير 2024 وهبوطه عند 12.8% فبراير 2025، فإن ارتفاع مؤشر أسعار المستهلكين المتصاعدة منذ 2016، وبشدة منذ مارس/ آذار 2022، تؤدي إلى تآكل الأجور، ما يدفع اقتصاديين في جامعتي القاهرة وعين شمس ومراكز بحثية متخصصة إلى مطالبة الحكومة بمراجعة منتظمة للأجور، وربطها بمعدلات التضخم.
يحذر الخبراء من عدم استفادة معظم المصريين من الحد الأدنى للأجور، حيث يوجد نحو 28.9 مليون فرد فقط يمكنهم الحصول على أجر منتظم يشكلون 29.6% من تعداد السكان البالغ نحو 105 ملايين نسمة.
تدفع الغرف التجارية بدراسة مقارنة عن أسعار السلع الأساسية والياميش، تظهر تراجعاً في أسعار الدقيق والفول والذرة الصفراء، والفاصوليا والأرز والعدس والسكر، وزيت الطعام والسمن النباتي واللحوم البلدية، والأسماك والطماطم والبصل والبطاطس، مقارنة بين موسم شهر رمضان الأكثر استهلاكاً خلال العام والمواكب شهري "فبراير ومارس" بعامي 2024 /2025، بمعدلات تتراوح ما بين 2% و6%.
يشير التحليل الصادر عن غرفة التجارة إلى ثبات أسعار الشاي والزبادي والفول المعبأ والبيض واللحوم الضأن، مؤكداً ارتفاعاً بنسبة 50% في أسعار الدواجن البيضاء والمكرونة والعصائر المركزة.
فروق الأسعار
يرجع مسؤول البيع بوكالة تجارية وسط العاصمة أحمد إبراهيم الفروق السعرية إلى منح وكالات السلع والتجار لموزعي المنتجات العام الماضي بنفس الأسعار الحالية، مع فارق مهم وهو إلغاء نظام تقييم التسهيلات الائتمانية للسلع وفقاً لسعر الدولار والعودة إلى احتساب القيمة بالجنيه.
أوضح إبراهيم لـ"العربي الجديد" أن الاستقرار النسبي في سعر الصرف بعد التعويم الأخير للجنيه، وحصول المستوردين على قيمة الواردات بالجنيه أو الدولار من البنوك وفقاً للأسعار الرسمية، منحهم القدرة على تسوية المديونيات بين التاجر والموزع عند سعر 51 جنيهاً للدولار بدلاً من أكثر من 73 جنيهاً خلال موسم رمضان 2024، موضحاً أن هذا التراجع في القيمة السعرية، لم يصل إلى الأسواق. يبين إبراهيم أن الارتفاع الهائل في أسعار السلع الغذائية وياميش رمضان العام الماضي كان مدفوعاً بارتفاع الدولار وتكاليف التوريد.
في جولة لــ"العربي الجديد" في أسواق العاصمة، رصدت توسع وزارات التموين والإدارة المحلية والداخلية والدفاع في إقامة معارض بيع السلع الرمضانية، وأسواق اليوم الواحد، التي تشرف عليها جهات سيادية، بالميادين الرئيسية بالعاصمة وأغلب المحافظات، لبيع سلع رخيصة، بالتعاون مع كبار التجار أعضاء الغرف التجارية.
رغم التحولات الهائلة في أسلوب حياة المصريين، لتناول وجبات الإفطار في رمضان، ببحثهم عن سلع رخيصة ونوعيات أقل عدداً ونوعية، وتوقف أغلب الأسر عن إقامة الولائم، فإن زيادة الأسعار حدت من قدرة الطبقة المتوسطة على إقامة "موائد الرحمن" التي كانت توفر وجبات مجانية للفقراء، ما يدفع العديد منهم إلى الجلوس على قارعة الطرق والميادين الشعبية انتظاراً للعون من الميسورين.
في محاولة لمساعدة الفقراء على مواجهة التضخم، أفتت وزارة الأوقاف برفع قيمة زكاة الفطر من 30 إلى 35 جنيهاً للفرد، مطالبة بتعجيل خروجها مع بداية شهر رمضان لمساعدة الفقراء على تدبير احتياجاتهم من الغذاء طوال شهر رمضان. وتدفع الحكومة بحزمة من المساعدات المالية لنحو خمسة ملايين أسرة مسجلة في منظومة الدعم النقدي "تكافل وكرامة" مع زيادة الحد الأدنى للأجور إلى سبعة آلاف جنيه شهرياً، ورفع الرواتب للعاملين بالدولة والقطاع العام وأرباب المعاشات، بما يضيف نحو 15% للمعاشات وألف جنيه للرواتب، يعتبرها اقتصاديون غير كافية لمواجهة التضخم الذي يتطلب حداً أدنى لا يقل عن 12 ألف جنيه شهرياً.
