من الصعب رصد ومشاهدة مسلسل درامي على إحدى الفضائيات العربية "المجانية"، ناهيك عن مشاهدته بروية أو استمتاع، من دون مقاطعة، فالإعلانات لك بالمرصاد، ومستعدة لشطب وتخريب أي شرط من شروط المشاهدة والتلقي، وكأنها تدفع بالمرء إلى الاشتراك المدفوع وتحمل تعقيدات الوصول إلى بث غير مشروط لمجرد الدفع، فمشكلة المنصات، وتحديداً العربية منها، هي الخضوع الى بيروقراطية إلكترونية تحتاج دائماً إلى المراجعة والصيانة، وهذا يقودنا مرة أخرى إلى دفع "الوقت/العمر"، مقابل الحصول على الترفيه الشعبي المتلخص بمشاهدة المسلسلات والأعمال الرمضانية، هذا من دون لحظ كمية الإجبار الإعلامي على مشاهدتها، وكأنها رسائل من جهة أخلاقية عليا، نحتاج إليها في مراقبة أدائنا الإنساني.
والإعلانات من طبيعة التلفزة، بشرط أن تستخدم بذكاء، لا بديكتاتورية سوق متحكمة بأوقات المشاهدين وأذواقهم، إذ يكفي ما في المسلسلات نفسها من دعايات سياسية وأيديولوجية، حتى يتحول المشاهد إلى غارق في مستنقع من الشعارات التي لا تتيح لأي سباحة تفكيرية أو تأملية فردية فيها، بل جزء من مجموع محاصر بالعيب والحرام والحلال والعرف، لتتجسد الزبائنية بأحلك صورها الشعبوية، تؤكدها برامج تزكية النجوم وصناع الأعمال التلفزيونية، على مختلف طموحاتهم، فيتحول الترفيه إلى عضوية في نوادٍ وهمية، من دون تقييم للمحتوى أو الأداء، وهذا جزء من الثمن المدفوع مقابل المشاهدة.
أما الجزء الأهم من هذا الزمن فهو تمضية الوقت/العمر، وهو أغلى ما يملكه الإنسان، في انتظار انتهاء الإعلانات لمتابعة مسلسل، فلن تمر دقائق، أو القليل من المشاهد حتى تقاطع مشاهدتك تلك الدعايات الإجبارية/الابتزازية المكررة والمتكررة، لتقطع بذلك فضولك ودهشتك، والأهم مقاطعة تسلسل الحكايات الدرامية، وهي ركن أساس من مسألة المشاهدة، مما يساهم ببعثرة المسلسل، كونه ليس إلا ذريعة "واهية" لمتابعة الإعلانات، والتي لا تكتفي بعرض إعلانات تجارية فقط، بل تمتد إلى مسلسلات وبرامج أخرى، بل للمحطة نفسها أيضاً، لدرجة أنها تعرض مقاطع من هذه المسلسلات في تشتيت واضح لجهد المشاهد، في تخصيص وقت لمشاهدة عمل تلفزيوني يعرف مسبقاً أن بضعة إعلانات تجارية ستقاطعه، ولكن ما يحصل الآن وعلى أغلب الفضائيات العربية ليس مقاطعة عابرة، بل هو عرض متوالٍ لإعلانات تقاطعها مشاهد من مسلسل أو برنامج تلفزيوني مليء هو نفسه بإعلانات الرعاة والممولين.
لا يمكن أبداً احتمال نوعية كهذه من العروض، فإذا كانت المحطات تعتبر نفسها هي صاحبة الأموال التي تصرف على الأعمال والبث، بحيث يحق لها التحكم بوقت المشاهدين، عبر إجبارهم على الولاء لها، بواسطة البث الاجتياحي المتواصل والمغرق، مما يحولهم إلى قبيلة تمحي تمايزهم الفردي، فذلك يمكن اعتباره جريمة، فيما لو جرى التمحيص بالقوانين، لأن ما يحصل هو شبيه بعقود الإذعان، وهي عقود غير قانونية ويمكن نقضها، فالصالح العام يقضي بعدم قتل المواطنين بواسطة استنزاف أعمارهم في انتظار مواصلة بث الأعمال "الترفيهية"، فالإنسان إمكانية، والأعمال الفنية هي محاولة تحسين وتطوير هذه الإمكانية، ولن يجري ذلك بمصادرة أوقاته مقابل متعة متقطعة لا تسمن ولا تغني من جوع، ناهيك إذا كان المعروض صالحاً للاستهلاك البشري المعاصر أم لا.
أما في شهر رمضان، فتتوفر أوقات كثيرة عند الصائمين، حسب العرف المتبع في بلادنا العربية، وطلب تزجية الوقت في انتظار الإفطار متوفر، ولكنه ليس دعوة لهدره بحجة خدمة مصلحة العموم، فهدر الوقت والتكرار ليس مصلحة لأحد بمن فيهم المعلنون، فالإطالة والتكرار يجعلان من المشاهدين في غنى عن المتابعة، وقد يستبدلونها بالتطنيش وعدم الاهتمام، حتى لو كان المعلن يعول على التأثير الغوبلزي لإعلاناته.
من يعتقد أنه يشاهد المسلسلات والبرامج الرمضانية بالمجان مخطئ، لأنه يقوم بدفع مقابل لا سبيل لاستعادته في حال كانت السلعة غير صالحة.
هذا النوع من المشاهدة القسرية يشبه من يشتري سمكاً في البحر، ليبدو كالمستغفل أو كالمقسور. في عودة إلى التعاقدات الاجتماعية غير المكتوبة، فكل تصرف اجتماعي هو عقد مهما كانت بساطته، فلا يحق لأي محطة تلفزيونية أن تدلس وتبيع إعلانات مقابل نتف من مسلسل لا قدرة لنا على لملمة عناصره المبعثرة.
لا يظننن أحدٌ أنه يشاهد مسلسلاً بالمجان، بل الأمر مدفوع بأغلى من سعر المنصات التي تعد بحذف الإعلانات التجارية، لأن أغلب المسلسلات هي أيضاً إعلانات أيديولوجية واجتماعية، يتوجب على الزبائن الإصغاء إليها مهما تكررت، ليصبح المشاهد محذوف الإرادة والاختيار، مقبل نتفة ترفيه يمكن استبدالها بطوفان من المنتجات الترفيهية في العالم.
