الاضطرابات النفسية... خسائر غير مرئية للصراع السوري

منذ ٢ شهور ٣٧

يعيش عدد كبير من السوريين تحت وطأة اضطرابات نفسية مختلفة ناجمة عن سنوات من الحرب والتهجير والاعتقال، ووفق تقديرات اختصاصيين، فان أكثر من مليون سوري يعانون من أمراض نفسية، ويحتاجون الخضوع للعلاج. وتعكس تلك الأرقام تداعيات مُرَكَّبة، فالصراع الذي مزّق البلاد لم يوهن الأجساد فقط، بل اخترق النفوس أيضاً، تاركاً جيلاً يعاني من جراح يصعب التئامها، كما خلّف مستويات متباينة من الاكتئاب والاضطرابات. 
ويؤكد مختصون تباين الأعراض النفسية، فالبعض تدفعه تلك الأعراض إلى العدوانية أو الوساوس أو الرغبة في السيطرة، فيما يهرب آخرون إلى العمل المفرط، أو يلجؤون إلى إرضاء المحيطين بشكل مَرضي. لكن الأخطر هو وضع "التجمد"، حين يفقد الشخص قدرته على اتخاذ القرار، وينسحب اجتماعياً، أو تظهر لديه أفكار انتحارية
وترى المختصة النفسية، شيماء حرب، أن التحدي الأكبر لا يتمثل في تقديم الخدمات، بل في تشجيع المرضى على طلبها. مشيرة إلى أن "النظرة المجتمعية السائدة ترى في المرض النفسي عاراً، ما يدفع كثيرين إلى الصمت. لذا نحرص دوماً على أن تكون الجلسات النفسية سرية، وأن تهدف إلى إعادة بناء الثقة بالنفس، وتمكين الأفراد من مواجهة آثار الصدمات".  

أكثر من مليون سوري يعانون من أمراض نفسية ويحتاجون للعلاج

وتضيف حرب لـ"العربي الجديد": "تُعتبر الصحة النفسية اختباراً حقيقياً لقدرة المجتمع السوري على النهوض من تحت الركام، إذ لا يُمكن اختزال معاناة الناجين من المعتقلات، أو شهود المذابح باعتبارهم مجرد أرقام، فجراحهم أعمق من أن تُوصف. المعتقلون السابقون يحملون في ذاكرتهم تفاصيل التعذيب الجسدي والنفسي، وحتما ستتحول ذكرياتهم لاحقاً إلى كوابيس، وقلق مزمن، وتدعى هذه الحالة النفسية بمتلازمة ما بعد الصدمة، وأعراضها عبارة عن فرط يقظة يجعلهم يعيشون في حالة حرب دائمة مع محيطهم".  
وتوضح: "يطور من شهدوا المذابح حالة نفسية تعرف باسم (الذنب الناجي)، خاصة إن كانوا الوحيدين الذين بقوا على قيد الحياة، وهذا الذنب لا يختفي بمرور الوقت، بل يتحول إلى كره للذات، أو انخراط في سلوكيات متهورة، ومن بين هؤلاء الأشخاص الذين فقدوا أفراداً من أسرهم خلال هجوم تنظيم داعش على السويداء في عام 2018، فرغم أن المحافظة كانت تُعتبر نسبياً آمنة، إلا أن الصدمة كانت أشبه بزلزال دمّر وهم الحصانة، ولايزال عدد من هؤلاء يعيشون مع أسئلة لا إجابات لها، من بينها لماذا نجوتُ ومات ابني؟ أو كيف أعيش وفي قلبي غُصة؟ هذه الأسئلة تُنتج مزيجاً من الاكتئاب المعقد والقلق الوجودي، خاصة لدى الأمهات اللواتي تحولن فجأة من رعاية أطفالهن إلى زيارة قبورهم".

وحول كيفية تقدير عدد الذين يعانون من مشاكل نفسية، يؤكد المرشد النفسي عمر حاطوم، والذي عمل سابقاً في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، أن "جميع البشر يعانون من أمراض نفسية خلال الحروب، لكن تقدير المصابين بالأمراض النفسية المتطورة بعد الحروب الطويلة يعتمد على معايير عالمية تشمل نسبة تتراوح بين 20 إلى 30% من السكان، فمثلا إن كان تعداد سكان سورية حالياً 13 مليون نسمة، فإن العدد التقريبي للمرضى النفسيين سيكون نحو 3,7 ملايين شخص، وذلك استنادا لمعادلات مرنة تعكس تفاوت شدة الصدمات بين المناطق، مع إدراك أن الرقم ديناميكي وغير نهائي".
من جانبها، تعتبر المرشدة النفسية رنا الحضوة أنه لا يوجد إحصاء دقيق لأعداد السوريين المصابين بالأمراض النفسية، أو بالاضطرابات النفسية المرحلية كالاكتئاب والقلق والانعكاسات العصبية. لكنها تؤكد أن عيادات الطب النفسي مكتظة بالمرضى، وخاصة من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و30 سنة، وكذلك من النساء بزيادة كبيرة عن أعداد الرجال.
وتوضح الحضوة لـ"العربي الجديد"، أن "الأسباب والدوافع التي ساهمت في ارتفاع نسب المصابين بالأمراض النفسية لا تتوقف على الحرب، وإنما تشمل تردي الوضع الاقتصادي والأمني، ما ضاعف الشعور بالخوف والقلق والعجز أمام المتطلبات اليومية، وأدى إلى الهروب من المواجهة في ظل غياب الحلول، وقد لاحظنا تزايداً كبيراً في الاضطرابات النفسية والسلوكية لدى الأطفال، وحالات عديدة من الرهاب النفسي والوسواس القهري". 
بدورها، تقول المختصة في علم الاجتماع، نهلة رافع، لـ"العربي الجديد"، إن "عيادات الطب النفسي المحدودة في سورية لا يمكنها استيعاب الأعداد الهائلة  من المصابين، خصوصاً أصحاب المراحل المتقدمة من الأمراض النفسية، وعلى الحكومة الجديدة أن تبدأ فوراً في إحداث مراكز علاج صحي مجانية، ومراكز تدريب وتأهيل، والعمل على تذويب العقبات الأمنية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت تقف حائلا أمام الحصول على العلاج. هناك زيادة كبيرة في أعداد المصابين بأمراض الدم والقلب والجلطات القلبية الناتجة من حالات الاكتئاب والاضطرابات النفسية الأخرى، ونذكر بتكرار حالات الانتحار، خاصة لدى الشباب". 

وتشير إحصائيات المكتب المركزي للإحصاء في سورية إلى أن العيادات العامة والخاصة قدمت بين عامي 2012 و2022 خدمات طبابة نفسية لنحو 261 ألف حالة، ما يعكس تقصيراً حكومياً واسعاً في زمن النظام السابق. 
وعلى الرغم من الإهمال الطويل للصحة النفسية، تلوح مبادرات عدة لتدارك الأوضاع، إذ بدأت وزارة الصحة في الحكومة السورية الانتقالية إقامة ورشات نقاش لتنسيق الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي بهدف وضع خطط استراتيجية للصحة النفسية، ووضع قانون لها، وآليات لتدريب الموارد البشرية من المختصين.
وحسب إحصائيات غير نهائية، وبعيداً عن تدخل المؤسسات الرسمية، فإن نحو 140 منظمة مدنية في سورية أسهمت في وقت ما خلال السنوات الـ14 الماضية في علاج الكثير من الحالات النفسية من خلال برامج ومشاريع ممولة من منظمات مانحة دولية، فيما لا يوجد في سورية حتى الآن خط ساخن لتلبية احتياجات حالات الإضطراب النفسي.

قراءة المقال بالكامل