بدأ البرلمان الجزائري باتخاذ خطوات تنفيذية بشأن صياغة قانون لتجريم الاستعمار، بعد توفر موافقة سياسية من أعلى السلطات لطرح المشروع الذي ظل معلقاً عقوداً لأسباب سياسية، لكنه يأتي هذه المرة في خضم أزمة سياسية ودبلوماسية حادة بين الجزائر وفرنسا.
ويعلن الأحد المقبل عن تشكيلة اللجنة النيابية وأعضائها، وذلك بعدما عُقد الأسبوع الماضي اجتماع بين رئيس البرلمان إبراهيم بوغالي،ورؤساء الكتل النيابية الخمس في البرلمان الممثلة للأحزاب السياسية، جبهة التحرير الوطني وحركة مجتمع السلم وجبهة المستقبل والتجمع الوطني الديمقراطي وحركة البناء الوطني، إضافة الى رئيس كتلة المستقلين، جرى خلاله الاتفاق على تشكيل اللجنة التي تضم عضواً من كل كتلة، تعمل على صياغة مسودة قانون لتجريم الاستعمار، تُعرض لاحقاً على مكتب المجلس واللجنة القانونية، قبل إحالتها إلى الحكومة لإبداء رأيها فيها، وفقاً لما ينص عليه الدستور والقانون المنظم للعلاقات مع الحكومة والبرلمان.
وأُبلغت الكتل النيابية في البرلمان الجزائري، خلال هذا الاجتماع، بحسب مصادر تحدثت إلى "العربي الجديد"، "بضرورة العمل على صياغة مسودة القانون، خاصة بفعل وجود إرادة سياسية للسلطات العليا للبلاد، التي قررت الذهاب نحو هذا المشروع"، ما يعني، بحسب المصادر نفسها، "وجود موافقة وتشجيع من قبل السلطة السياسية والرئيس عبد المجيد تبون لإخراج هذا القانون إلى النور، وتدعيم المطالب والاستحقاقات التاريخية للجزائر بشأن الميراث الاستعماري بنص تشريعي يعزز هذه المطالب، ويمنع أي تنازل بشأنها".
وكان رئيس البرلمان الجزائري إبراهيم بوغالي قد أعلن للمرة الأولى، في تصريح في 31 يناير/ كانون الثاني الماضي، أنه "حان الوقت لطرح مشروع قانون تجريم الاستعمار"، مضيفاً أن "الوضعية الحالية تجبرنا على تقديم قانون تجريم الاستعمار. كفانا البقاء في وضع الدفاع وحان وقت الهجوم"، وكان ذلك التصريح يعني وجود موافقة من السلطات السياسية العليا للبلاد على صياغة وإصدار قانون تجريم الاستعمار، وإدخاله صلب الصراع والمناكفة السياسية القائمة بين الجزائر وفرنسا في الفترة الأخيرة، وعلى نحو غير مسبوق.
وسيكون من اللافت الإشارة الى أن هذا القانون هو أول نص تشريعي يقوم البرلمان بصياغته وتقديمه إلى الحكومة لإبداء رأيها منذ عقود، والمفترض أن تكون هذه الآلية الطبيعية بحكم الدور التشريعي للبرلمان، بخلاف كل القوانين والتشريعات التي كانت تقدمها وتقترحها الحكومة، بينما يكتفي البرلمان بمراجعتها وإدخال تعديلات طفيفة عليها، ويُعتقد أن ترك الحكومة المبادرة التشريعية للبرلمان بشأن قانون تجريم الاستعمار يهدف الى إعطائه مصداقية شعبية وقوة تشريعية، أكثر من كونه مقترحاً سياسياً لو قدمته الحكومة.
وتتجاوز هذه الخطوة كونها مجرد مناكفة سياسية من قبل الجزائر تجاه باريس في خضم الأزمة السياسية القائمة بين البلدين، إذ إنها تعطي مؤشرات جدية على رغبة الجزائر في الذهاب إلى أبعد حد ممكن وعدم التراجع إزاء باريس بشأن المطالب التاريخية المرتبطة بجرائم الاستعمار واستحقاقات الاعتراف والاعتذار والتعويض، والرغبة في إحداث قطيعة جدية مع الطريقة السابقة في معالجة هذه المطالب والقضايا، خاصة مع تكشف مزيد من الملفات والجرائم الاستعمارية بحق الشعب الجزائري خلال الفترة الكولونيالية، إذ إن بعض آثارها ما زال مستمراً حتى الآن، على غرار التجارب النووية جنوبي الجزائر، كما تستند هذه الخطوة أيضاً إلى مقررات القمة الأفريقية الأخيرة، التي كانت صادقت على لائحة لتجريم الاستعمار، وشجعت الشعوب الأفريقية على صياغة لائحة محلية لتجريم الاستعمار، كما كلفت الجزائر وثلاث دول أخرى بالعمل على تنفيذ المبادرة الأفريقية لتجريم الاستعمار والمطالبة بالتعويضات العادلة عن الظلم الاستعماري الذي حاق بالشعوب الأفريقية خلال عقود من الكولونيالية.
وتأتي هذه الخطوة من قبل البرلمان الجزائري والسلطة استجابة لتطلعات ومطالبات سياسية وشعبية ظلت قائمة منذ سنوات، خاصة بعد إقرار البرلمان الفرنسي عام 2005 قانوناً لـ"تمجيد الاستعمار"، واعتباره نقلاً للحضارة إلى الجزائر ودول أخرى، إذ طُرحت منذ أكثر من 41 عاماً مبادرات في البرلمان الجزائري لتجريم الاستعمار في 1984 و2001، ثم مبادرة أخرى عام 2006، فيما كانت أحدث مسودة مشروع قد طُرحت عام 2021، خلال العهدة النيابية الحالية، من قبل النائب عن حركة مجتمع السلم زكرياء بلخير، حيث حصل على 100 توقيع من النواب، وتضمن 54 مادة، يحمّل "الدولة الفرنسية المسؤولية كاملة عن الجرائم التي ارتكبتها الجيوش الفرنسية وعملائها طيلة فترة الاستعمار بصفتها جرائم ضد الإنسانية، كالتفجيرات النووية، والإبادة الجماعية، وحقول الألغام، وجريمة الألقاب المسيئة، وسرقة الممتلكات، والتراث الوطني"، ويشدد على أن جرائم الاستعمار الفرنسي لا تخضع لمبدأ التقادم ولا لقوانين العفو، وفقاً لمقتضيات القانون الدولي الإنساني، والمطالبة بالتعويضات عن الأضرار المادية والمعنوية الناجمة عن الجرائم الاستعمارية.
ويشدد القانون على المعاقبة بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين وغرامات مالية لكل من يقوم بتمجيد الاستعمار الفرنسي في الجزائر بأية وسيلة من وسائل التعبير، وعلى استحداث محكمة جنائية تختص بمحاكمة كل شخص ارتكب أو ساهم في ارتكاب جريمة من الجرائم الاستعمارية، ويشدد القانون على إلزام الدولة الجزائرية فرنسا بإعادة الممتلكات المنهوبة والمهربة خلال الاستعمار، والعمل عبر قنواتها الرسمية والدبلوماسية على إجبار فرنسا على تقديم تعويضات عادلة ومنصفة.
ويأتي بدء الخطوات التنفيذية لصياغة قانون تجريم الاستعمار في ظروف توتر غير مسبوق بين الجزائر وباريس، وأزمة سياسية ودبلوماسية حادة بين البلدين، بدأت منذ رفض الرئيس الجزائري زيارة باريس في يناير/كانون الثاني ثم مايو/ أيار 2023، تلتها أزمة تغير الموقف الفرنسي من قضية الصحراء، وتفاقمت مع قضية المهاجرين الذين ترفض الجزائر استقبالهم، واعتقال الجزائر الكاتب الفرانكو-جزائري بوعلام صنصال، وسلسلة تصريحات واتهامات متبادلة بين البلدين.
