لطالما تعامل المجتمع العراقي مع التحرش باعتباره سلوكاً أو تصرفات فردية، لكن مع ضعف المساءلة، تحوّل تدريجياً إلى ظاهرة يومية تُمارس على مرأى من الجميع، في الأسواق والجامعات وفي مواقف النقل، وأحياناً في بيئات يُفترض بها أن تكون آمنة.
تواجه جميع الفتيات والنساء هذا النوع من الأذى يومياً، وكثيرات منهنّ لا يخبرن أحداً لغياب الثقة في أنّ أحداً قد ينصفهن، أو حتى يصغي إليهن من دون أن يُلقي عليهن باللوم، وأحياناً خشية من ردّ فعل الأهل تجاه المتحرش.
تقول سارة عبد الرحيم (31 سنة)، وهي أم طفل عمره ست سنوات، لـ"العربي الجديد"، إنها تعاني باستمرار من التحرش في الأماكن العامة، وإنها لا تسلم من الكلمات النابية، والتعليقات المسيئة التي يوجهها بعض المارة، حتى عندما تكون برفقة طفلها الصغير. وتضيف: "أشعر بالإهانة، وغالباً ما أتجاهل الأمر، لكنّي داخلياً أتأذى كثيراً. لم يعد اللباس أو الوضع الاجتماعي مانعاً، فالتحرش أصبح نمطاً يومياً، وأتحاشى المرور في الأزقة أو الشوارع الخالية من المارة تفادياً لأي موقف قد يخرج عن السيطرة".
بدأت الأصوات النسائية العراقية ترتفع للمطالبة بمواجهة التحرش
وتُعد ظاهرة التحرش قضية مسكوتاً عنها في العراق، ولا سيما في المجتمعات المحافظة التي عادة ما تضع اللوم على المرأة، ما يجعل كثيرات يفضلن الصمت، مع ذلك، بدأت أصوات نسائية ترتفع للمطالبة ببيئة أكثر أماناً.
تصف نور محسن (23 سنة)، وهي طالبة جامعية من بغداد، التحرش بأنه وباء اجتماعي منتشر. وتقول لـ"العربي الجديد": "أغلب المتحرشين هم من المراهقين والشباب الذين ينتمون إلى طبقات غير متعلمة، وغالباً ما يكون دافعهم التسلية، أو إثبات الذات المشوهة. في حين نلاحظ ندرة هذه التصرفات في الأحياء الراقية، حيث يوجد مستوى أعلى من الوعي. أنا وكثيرات مثلي، لم نقابل المتحرشين بالصمت، بل نواجههم، ونحاول تصويرهم لفضحهم، أو الاستعانة بالمارة لردعهم، فسكوتنا عن التحرش أحد أسباب انتشاره".
لدى رانيا سلمان (34 سنة) قصة مختلفة تحمل في طياتها وجعاً من نوع آخر. تقول لـ"العربي الجديد"، إنها تعرضت أكثر من مرة لتحرش جسدي، خاصة في المناطق التي تشهد ازدحاماً أو فوضى، وتروي تفاصيل إحدى الوقائع: "كان ذلك في افتتاح مطعم جديد، وقد تسبب بازدحام شديد، وأثناء مروري شعرت بيد تلمس جسدي من الخلف. لم أتمكن من رؤية من فعل ذلك، لكني غضبت ورحت أصرخ".
في حادثة أخرى أكثر خطورة، تقول رانيا، إن شابين اعترضا طريقها، وحاولا جرّها نحو زقاق ضيق، لكنها تمكنت من الإفلات منهما بعد مقاومة. وتضيف: "حين أزور مناطق معينة أرتدي ملابس أكثر احتشاماً من باب الحذر، بينما أختار ملابس أكثر راحة في مناطق أخرى يبدي فيها الناس مزيداً من الاحترام والمسؤولية، لكن في كل الأحوال، يظل المتحرش مريضاً، ولا يهمه نوع الملابس أو هيئة المرأة التي يتحرش بها".
وتعكس هذه الشهادات تحولاً اجتماعياً مقلقاً، إذ تشير نساء كثيرات إلى أن حرية المرأة في التنقل واللباس كانت أوسع خلال عقود ماضية، ويتهمن المجتمع بأنه انحدر نحو التخلف والأفكار الرجعية. تقول الناشطة النسوية إخلاص الونداوي، لـ"العربي الجديد": "لم تكن المرأة العراقية في السابق تُستهدف بهذا الشكل الفج الممنهج، وكان هناك احترام نسبي أكبر، خصوصاً في الأحياء الشعبية. أما اليوم، فقد أصبح جسد المرأة مساحة للتحرش تحت أعين أفراد المجتمع. تراجع المستوى التربوي، وانتشار البطالة، وضعف دور الأسرة، كلها عوامل ساعدت على تنامي هذه الظاهرة القبيحة".
وظاهرة التحرش ليست جديدة على المجتمع العراقي، لكنها كانت أقل نسبياً، ولا تشمل كلاماً بذيئاً، وغالباً ما كان المتحرش يلقي على أسماع الفتيات عبارات غزل، لكن مختصون نفسيون يؤكدون أن التغيرات الاجتماعية والثقافية المتسارعة أدت إلى ازدياد التحرش بكل أنواعه.
يقول الطبيب النفسي حسن الشمري لـ"العربي الجديد": "غالباً ما يبحث الشبان والمراهقون عن سبل لتفريغ كبتهم، بخاصة في ظل انسداد الأفق، وغياب فرص التعبير البنّاء في العراق. المشاكل والحروب والصراعات كان لها أثر نفسي على المجتمع، فبدلاً من السير إلى الأمام في مجالات الثقافة والوعي، وزيادة الاختلاط بين الجنسين، حصل العكس، والتحرش أحد الآثار النفسية الناجمة عن هذه الظروف".
ورغم أنّ العراق صادق على عدد من الاتفاقيات الدولية التي تحمي حقوق المرأة، لكن قانون العقوبات العراقي لا يتضمن مصطلح "التحرش" بشكل صريح، لكنّه يعالج الأفعال المرتبطة به تحت مسمّى "الجرائم المخلة بالحياء" ويشمل عقوبات سجن بين 3 و6 أشهر، مع غرامات مالية.
