التضامن الدولي وفلسطين.. إلى أين؟

منذ ٢ شهور ٤٣

مثّلت حرب الإبادة على قطاع غزّة دافعًا لتضامنٍ دوليٍ واسعٍ مع الشعب الفلسطيني في مواجهة هذه الحرب، إذ تصاعدت التظاهرات والاحتجاجات الداعية إلى وقف الحرب، ومقاطعة إسرائيل، وفرض عقوباتٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ وأكاديميةٍ عليها، وملاحقة قادتها بتهم جرائم الحرب. تركزت الاحتجاجات في مراكز صنع القرار الغربية، سواء في الولايات المتّحدة، أو في العواصم الأوروبية، وبرز في هذا الفعل جهد الشتات الفلسطيني، الذي ساهم بفاعليةٍ به وببناء سرديةٍ فلسطينيةٍ أخلاقيةٍ متماسكةٍ تقوم على فكرتي الحرية وحقّ تقرير المصير. لكن، ورغم كثافة حراك التضامن ودعم القضية الفلسطينية وإسنادها، إلّا أن هذا الجهد ما زال مبعثرًا ومفتقدًا للحواضن الجامعة، رغم حملاتٍ ومؤسساتٍ رسخت وتوسعت دوليًا في هذا المجال، وفي مقدمتها حركة المقاطعة.

صحيحٌ أنّ التضامن الدولي لم يتمكن، خلال أكثر من 15 شهرًا، من وقف حرب الإبادة، أو فك الحصار على قطاع غزّة، لكنه بدأ بإحداث تغييراتٍ في الرأي العام، وعلاقات إسرائيل الدولية، وموقعها في المنظومة الغربية، وهذا ما قاد دولاً عديدةً إلى قطع علاقاتها مع إسرائيل، كما قطعت جامعاتٌ، ومراكز أبحاثٍ، وشركاتٌ، وقطاعاتٌ واسعةٌ علاقاتها مع نظرائها الإسرائيليين، استجابةً إلى لضغوطٍ شعبيةٍ، أو من قبل قطاعاتها. فعلى سبيل المثال، قطعت حوالي 50 جامعةً حكوميةً إسبانيةً، و40 جامعةً أميركيةً، ضمن مئات المؤسسات الأكاديمية والبحثية الدولية، علاقاتها البحثية والأكاديمية مع إسرائيل. كما قطعت/ جمدت دولٌ عديدةٌ علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، منها بوليفيا وكولومبيا، كذلك رفعت بعض الدول مستوى علاقاتها الدبلوماسية مع فلسطين، مثل إسبانيا والنرويج، على سبيل المثال.

 رغم تراكمية الفعل التضامني مع القضية الفلسطينية، وانتشاره أفقيًا، واستناده إلى عددٍ متزايدٍ من المؤسسات المحلية، إلّا أنّ هذا التوسع ما زال يفتقد للنواظم الجامعة، والمؤسسات التأطيرية

أيضاً، من المهم الانتباه إلى تركز حركة التضامن الدولية ضمن شريحة الشباب، وفي نطاقٍ متصاعدٍ ومستمرٍ في الانتشار، وهذا ما ساهم أيضًا في نجاح مقاطعة العلامات التجارية المساندة لإسرائيل، ليس في دول الجنوب فقط، بل في دول الشمال أيضًا.

في المقابل، ومع مطلع العام الجاري، رصدت إسرائيل حوالي 150 مليون دولار لجهاز الدعاية الإسرائيلي (الهسبراه)، بزيادة حوالي 20 ضعفًا عن العام الماضي، إذ أشار وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر إلى أنّ المبلغ استثمارٌ في سمعة إسرائيل ومكانتها الدولية. تعمل "الهسبراه" بتناغمٍ كاملٍ مع جماعات الضغط، التي تعمل لصالح هذه الدعاية دوليًا، وتركز على ربط التضامن مع القضية الفلسطينية وانتقاد إسرائيل بمعاداة السامية، واعتبار أيّ نمطٍ من أنماط النضال الفلسطيني إرهابًا، من أجل استعادة الفاعلية الإسرائيلية دوليًا في هذا المجال.

أصبحت هذه المهمة أكثر إلحاحًا مع ملاحقاتٍ طاولت جنودًا إسرائيليين حول العالم، منها حادثة الجندي الإسرائيلي في البرازيل، الذي نجحت تل أبيب في تهريبه، بعد إصدار محكمةٍ برازيليةٍ أمرًا بفتح تحقيق، بشأن ضلوعه في جرائم حرب، وفي ظل وجود حوالي 50 شكوى ضدّ جنودٍ إسرائيليين في عشر دولٍ حول العالم.

بناءً عليه، وفي ظلّ التوصل إلى اتّفاقٍ لوقف هذه الحرب، ومع كثيرٍ من الأمل بأن يكون الاتّفاق نهائيًا، سيشهد شكل التضامن الدولي ومساراته ومآلاته تحولاتٍ، وإعادة ترتيبٍ للأولويّات، في المقابل، ستكون إسرائيل مهتمّةً بتعزيز جهودها لردع حركة التضامن من جهةٍ، وترميم حضورها الدولي من جهةٍ أخرى.

على مستوى دعم القضية الفلسطينية، فإنّ المسار المقبل سيستند على ما سيخرج من قطاع غزّة من فظائع وقصصٍ إنسانيةٍ صادمة، غابت عن الإعلام بسبب واقع الحرب، وبسبب منع الصحافة الأجنبية من دخول القطاع، فإنّ كان من المحتمل أن يشهد الدعم تراجعًا في الحضور الشعبي والتظاهرات المساندة، إلّا أنه من المتوقع أن يأخذ دورًا تعبويًا من خلال الإعلام والمؤسسات الأهلية المتخصصة، استناد إلى لا أخلاقية الفعل الإسرائيلي، وانتهاكه القانون الدولي، ومسؤولية الدول في دعم إسرائيل وحربها، التي امتدت منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

في المقابل، من المتوقع أن تقود تل أبيب، مستندةً على التحول السياسي في الولايات المتّحدة ووصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب مرّةً أخرى إلى البيت الأبيض، حملةً واسعةً لتكبيل التضامن الدولي، وتكسير أدواته ومساراته، استنادًا إلى جماعات الضغط والإسناد، والمؤسسات المتخصصة، ولعل أبرز تلك الأدوات محاولة توسيع نطاق التشريعات التي تربط بين انتقاد إسرائيل ومعاداة السامية، وخلق حالةٍ من الرهاب المتصل بذلك.

رصدت إسرائيل حوالي 150 مليون دولار لجهاز الدعاية الإسرائيلي (الهسبراه)، بزيادة حوالي 20 ضعفًا عن العام الماضي

رغم تراكمية الفعل التضامني مع القضية الفلسطينية، وانتشاره أفقيًا، واستناده إلى عددٍ متزايدٍ من المؤسسات المحلية، إلّا أنّ هذا التوسع ما زال يفتقد للنواظم الجامعة، والمؤسسات التأطيرية، سواء كانت محليةً أو دوليةً، فهذه المؤسسات التأطيرية ضروريةٌ لتنسيق العمل وتوزيع الأدوار، والتكامل وفق رؤيةٍ متفقٍ عليها، واستراتيجيةٍ موحدةٍ.

يضاف إلى هذا التحدّي تحدٍّ آخر، يتمثّل في الواقع السياسي الفلسطيني الرث، الانقسام الفلسطيني، وما أنتج من أزماتٍ في الشرعية، والهوية، والمشروع الوطني، إذ أدى هذا الواقع إلى ضعف في أداء الدبلوماسية الفلسطينية، التي انعكس عليها الاستقطاب الفلسطيني الداخلي من جهةٍ، والترهل المؤسساتي من جهةٍ أخرى، فارتكز التعامل الفلسطيني مع التضامن الدولي على تقلبات السياسة الفلسطينية الداخلية، التي استنزَفت الجهد الفلسطيني منذ عام 2007، وأفقدت الحالة الفلسطينية فرصًا عديدةً للتأثير الدولي.

أما على مستوى المشروع الوطني، فما زالت التجاذبات والنقاشات الفلسطينية الداخلية متأثرةً بالانقسام أيضًا، وهي نقاشاتٌ من دون استراتيجيةٍ، تقفز عن أسئلةٍ رئيسيةٍ مهمةٍ ضروريةٍ لبناء رؤيةٍ وطنيةٍ جامعةٍ، ينبثق عنها مسارٌ لتعزيز جهود التضامن الدولي الداعم لفلسطين وقضيتها.

في هذا الإطار، وبما أنّ المدّ المتضامن مع القضية الفلسطينية والمساند لها لا يعني بالضرورة حسمًا للعلاقة مع إسرائيل، خصوصًا في ظلّ تناقل مراكز الحكم، في العديد من العواصم الغربية المركزية، بين اليمين واليسار، فإنّ المرحلة التالية للحرب على قطاع غزّة، بحاجةٍ إلى خلق بنيةٍ تحتيةٍ جمعيةٍ لأطر التضامن مع القضية الفلسطينية، وفق رؤيةٍ فلسطينيةٍ جامعةٍ ومساندةٍ، ووفق آليات تنظيم العمل، وتنسيقٍ شاملٍ بين هذه الفواعل وهؤلاء اللاعبين، خصوصًا أنّ معارك سياسيةً وقانونيةً قد تواجه العديد من الجمعيات والمؤسسات والفواعل، في ظلّ تفعيل منظومة "الهسبراه" المضادة.

قراءة المقال بالكامل