يأتي إصرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب على تهجير جزء من الشعب الفلسطيني من قطاع غزة، ليعكس السلوك النفسي في "أنا متوحشة" عند الرجل. ومسألة "أنا التوحش" عند ترامب يشير إليها عالم النفس السلوكي الدنماركي هنريك تينغليف. هي لا تستند بالضرورة إلى كفاءة المعرفة عند الرجل ومؤيديه، بقدر ما تحاول تغذية انتفاخ أنا (إيغو) فردية وجماعية. تينغليف شرّح نفسية ترامب في محاولته انتزاع غرينلاند من الدنمارك وقناة بنما وضم كندا، باعتبارها تمثل الغطرسة الجاهلة والاستعلائية التوسعية التي تتملك الرجل، الذي اختار طاقمه بعناية للمحافظة على موقعه كذكر ألفا في القطيع.
مقترح ترامب تهجير فلسطينيي غزة، وبناءً على ما يحلل تينغليف، ينم عن جهل وغطرسة، إذ يبدو وكأنه يتجاهل أن كل ذخائر بلاده، وجنون عظمة القوة النارية للصهيونية -الدينية في طلب وترجمة الإبادة الجماعية، لم تقُدهم إلى نكبة أخرى. "شفقة" ترامب على أهل غزة، وسط هيجان الغطرسة والعجرفة، لم تقده إلى لجم التعطش للدماء في تل أبيب، ولا إلى وقف نزع إنسانية الفلسطيني والخجل من علنية طلب إبادة وتطهير عرقي. رفع ترامب إرهابيي الاستيطان عن قائمة العقوبات يعني أنه ليس أقل خضوعاً، مهما تغطرس، من الصهيوني جو بايدن لأمثال المهاجرين البولندي بنيامين نتنياهو والأوكراني بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية الإسرائيلي المتطرف.
غرور توحّش الأنا عند ترامب لا يُواجه بالخضوع، ولا بقبول أن يخاطب الدول والشعوب وكأنها غير ذات سيادة، بل بصدمة الرفض والتحالف مع أصوات أوروبية وأميركية تعتبر فرض التهجير بمثابة جريمتي حرب وتطهير عرقي. وقبل هذا وذاك يحتاج مستشارو الرجل والهامسون في أذنه أن يخبروه عن معنى طوفان عودة الغزيين إلى شمالي قطاع غزة رغم تدميره. بل إعلامه أن التهجير يعني فقط توسيع الفعل المقاوم نحو رقع جغرافية أخرى. لعل سفارات ترامب تخبره عن واقعية أفكار ومقترحات الشوارع العربية والمتضامنين الدوليين معهم رداً عليه، لتخفيف الجريمة المرتكبة بحق فلسطين طيلة 76 سنة. إذ يمكن لترامب سحب وتوطين مليون ونصف مليون مهاجر إسرائيلي، بالتعاون مع ألمانيا وفرنسا، خصوصاً من حملة الجنسيات المزدوجة.
نعم، لعلّ المتفجعين على غزة، المجهّلين لمرتكبي الجريمة، يعتبرون أن اقتراح نقل اليهود من فلسطين "معادٍ للسامية"، وفي ذلك تظهير حقيقي لمعنى الغطرسة وقبول تمرير جرائم الحرب والإبادة طالما أن الدماء هي فلسطينية وعربية. في المقابل، فإن مسؤولية العالم العربي ليست في تمجيد الغزي وصموده، بل في التصرف على أساس أن التمسك بالأرض فيه صيانة للأمن القومي لدول الجوار القريب والبعيد. أمام الدول العربية القادرة، فرصة لتعزيز صمود غزة وبلسمة جراحها، ولو من خلال فتح الأبواب للعمالة والموظفين الغزيين، أسوة بالمصري والسوري واللبناني والجزائري، والتونسي والسوداني وغيرهم. فاستقبال اليد العاملة من غزة لن يجعل التمسك بفلسطين أقل عند من يساند أهله ويؤسس لحياة على أنقاض الدمار الهائل. فالصمود على الأرض لا يتم من خلال صناديق التضامن اللفظي.
بدل مواجهة مشاريع التهجير بالتصريحات، كما جوبهت محاولات تهويد القدس المحتلة، فإن العالم العربي يستطيع لجمها بمشاريع سريعة لإعادة إعمار قطاع غزة، وكسر الحصار الجائر. أما التصرف مع الهوس السلوكي النفسي عند ترامب وإدارته بلغة مائعة ورمادية، فذلك لن يحمي حتى المصالح القومية الأنانية للدول المستهدفة. في نهاية المطاف، ليس ترامب قدراً محتوماً وجب الخضوع له. فحتى في لغة المصالح، فإن من يخسر في إمعان الرجل المتغطرس هي أميركا ومصالحها، وهي الباحثة عن حلفاء في مواجهة تحديات جسام تتعلق بموقعها ومستقبلها العالمي.
