التوثيق والملاحقة الجنائية بعد نهاية العدوان

منذ ٢ شهور ٤٥

توصلت فصائل المقاومة الفلسطينية، ممثّلةً بحركة حماس، إلى مجموعةٍ من التفاهمات التي انتهت إلى الاتّفاق على وقف إطلاق النار في قطاع غزّة، وتخفيف المعاناة الإنسانية، بعد حربٍ طاحنةٍ متواصلةٍ منذ أكثر من 15 شهرًا شنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزّة، أدت لسقوط عشرات الآلاف من القتلى والجرحى، إلى جانب التدمير واسع النطاق في البنية المدنية داخل القطاع، وقد استضافت دولة قطر سير عملية المفاوضات في الدوحة إلى جوار دولٍ إقليميةٍ أخرى. كما نجد في إطار التوصل إلى اتّفاق وقف إطلاق النار أنّ الوقت مناسبٌ للتوثيق والملاحقة الجنائية، ودائمًا ما تكون هذه الإجراءات بعد انتهاء العمليات العسكرية، لأن التوثيق مستحيلٌ خلال الحرب.

يعدُّ التوثيق والملاحقة الجنائية من الأدوات الأساسية لتحقيق العدالة، ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة بعد انتهاء الحروب والصراعات. يشمل التوثيق جمع الأدلة والشهادات المتعلقة بجرائم الحرب، والجرائم ضدّ الإنسانية، والإبادة الجماعية، ويعتبر خطوةً ضروريةً لخلق سجلٍ تاريخيٍ موثوقٍ يحفظ حقوق الضحايا ويمنع الإفلات من العقاب. كما تمثّل الملاحقة الجنائية الأداة التطبيقية التي يُبنى عليها عمليات المساءلة الجنائية، عبر الآليات المحلية والدولية، مثل المحاكم الوطنية، أو الهيئات القضائية الدولية كالمحكمة الجنائية الدولية. تسعى هذه الجهود كلّها إلى تقديم مرتكبي الجرائم إلى العدالة، وضمان تعويض الضحايا، وردع الجرائم المستقبلية. إلّا أنّ هذه العمليات تواجه تحدياتٍ كبيرةً في الإطار العام، وفي الإطار الفلسطيني، تتعلق بخصوصية الأراضي الفلسطينية المحتلة، ونظام الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، المرتكب للجرائم والمسيطر على قطاع غزّة "مسرح جريمة الإبادة الجماعية".

تعودت سلطات الاحتلال الإسرائيلي على ممارساتها التي تخترق قواعد المنظومة الدولية، وتعمل كأنّها كيانٌ فوق الملاحقة والعقاب، وساعدها في ذلك الدعم الغربي اللا محدود، خصوصًا من الولايات المتّحدة، من خلال الاصطفاف إلى جانب مرتكبي الجرائم، والتستر على الانتهاكات الجسيمة.

إنّ الإجراءات المتخذة من قبل إسرائيل لا تغل يد اللجان الدولية، والمحاكم الجنائية في ممارسة اختصاصهم في الملاحقة الجنائية، بل يمكن تجاوزها عبر الكثير من الحلول الموجودة أو المبتكرة

كذلك نجد على صعيد التحديات المرتبطة بعمليات توثيق الجرائم ما تظهره دومًا سلطات الاحتلال الإسرائيلي من رغبة في عدم التعاون مع اللجان الدولية، التي تود التحقق في الجرائم الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، وكان آخرها العدوان الحربي الذي شنته إسرائيل في عام 2021 على قطاع غزّة، فقد أبلغت إسرائيل حينها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتّحدة رسميًا بعدم تعاونها مع لجنة التحقيق الخاصة بعدوان 2021 على قطاع غزّة، بل تمادت في ذلك، مخاطبةً كيانًا أمميًا علانيةً بأنّها ستمنع أعضاء لجنة التحقيق الخاصة به من الدخول إلى قطاع غزّة. إلى جانب ذلك، عملت على استهداف أعضاء اللجنة الأممية باتهامات معاداة السامية من أجل اغتيالهم معنويًا، إلى جانب حملة تشويهٍ واسعة النطاق.

في إطار الملاحقة الجنائية، ما زالت سلطات الاحتلال الإسرائيلي وحلفاؤها يحاولون إنكار اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بالنظر في الجرائم الإسرائيلية المرتكبة في قطاع غزّة، كلّ ما تسنح لهم الفرصة، وفي إطار متصلٍ، نجد أن الولايات المتّحدة تُأخذ منحنًا متطرفًا كلما ازداد احتكاك عمل المحكمة الجنائية الدولية في الجرائم الإسرائيلية. إذ سبق للحكومة الأميركية فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، والقضاة والعاملين فيها، من خلال منعهم من السفر، وإغلاق حسابتهم المالية. وشهد شهر يناير/كانون الثاني من عام 2025، تشريعًا عن مجلس النواب الأميركي يفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، على خلفية مذكرات الاعتقال التي أصدرتها بحق بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت. أما بخصوص الجانب الإسرائيلي، فمنذ إعلان المحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق في الجرائم الإسرائيلية 2021، وهي تُظهر عدم التعاون مع المحكمة بكل وضوح، بل تتجاهلها بالسماح لقواتها ومستوطنيها بالاستمرار في ارتكاب الجرائم، التي تدخل في اختصاص المحكمة، في كلٍّ من قطاع غزّة، والضفّة الغربية، والقدس الشرقية.

من دون أيّ شكٍّ، تمثّل إجراءات سلطات الاحتلال الإسرائيلي وحلفائها هذه حجر عثرةٍ في سير منظومة العدالة الجنائية العالمية، لكن هذه الإجراءات المُتخذة لا تمنع من الوصول إلى الغاية المرجوة من عمليات التوثيق والملاحقة الجنائية، بل تطيل أمدها. فهناك الكثير من الوسائل لتجاوز هذه العقبات، عبر الاعتماد على الأدوات المحلية بدلًا من اللجان الدولية في عمليات التوثيق، فيُمكن تأليف لجان وطنية من خلال التعاون مع الأجسام الدولية لجمع الدلائل والحقائق، ثم إرفادها إلى اللجان الدولية، عبر منظومة بحثٍ وجمعٍ وتحليلٍ، وحفظٍ متكاملة للمواد الموثقة. كما تجدر الإشارة هنا؛ إلى أنّ الخبرات الفلسطينية في هذا المجال والمهام عاليةٌ جدًا، فالمؤسسات الحقوقية الفلسطينية تمتهن التوثيق وفقًا لاختصاصاتها منذ سنواتٍ عديدةٍ، ولديها بناءٌ معرفيٌ، وتراكمٌ في مهارات التوثيق، وشبكة تعاون قويةٌ مع الأجسام واللجان الدولية.

وعلى الصعيد ذاته، أيّ في إطار الملاحقة الجنائية، تستطيع المحكمة الجنائية الدولية تجاوز عقبة منع إسرائيل الفرق الفنية الخاصة بمكتب الادعاء العام من الدخول إلى داخل قطاع غزّة، من أجل مقابلة الضحايا، أو إجراء تحقيقاتٍ ميدانيةٍ، في ما يتعلق بالملفات المنظورة أمامهم، وذلك من خلال التعاون مع المؤسسات الحقوقية الشريكة، والعمل في إطار السرية الكاملة مع الضحايا في خارج قطاع غزّة، تحت بند حماية الشهود. وقد عملت المحكمة بهذا النهج في إطار مذكرات الاعتقال التي صدرت بحق كلٍ من نتنياهو وغالانت، فقد أخذ مكتب الادعاء العام شهاداتٍ سريةً من الضحايا الفلسطينيين، وبنى عليها طلبه بإصدار مذكرات الاعتقال، والتي حكمت بها الدائرة التمهيدية الأولى في المحكمة. كما أن هناك مسارًا آخر يمكن الملاحقة الجنائية من خلاله نسبيًا، عبر ملاحقة جنود الاحتلال من مزدوجي الجنسية، عبر تحريك دعوى جنائية بحقّهم، أثناء زيارتهم لبلدانهم الأخرى، بعد خدمتهم مع الجيش الإسرائيلي في حرب الإبادة الجماعية، إلى جانب التزام الدول الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية بإلقاء القبض على المجرمين الإسرائيليين وتسليمهم للمحكمة في حال دخولهم أراضيها.

من ذلك كلّه، نستطيع القول إنّ الإجراءات المتخذة من قبل إسرائيل لا تغل يد اللجان الدولية، والمحاكم الجنائية في ممارسة اختصاصهم في الملاحقة الجنائية، بل يمكن تجاوزها عبر الكثير من الحلول الموجودة أو المبتكرة، إلى جانب أن الإجراءات التي تتخذها الولايات المتّحدة في حقّ منظومة العدالة الدولية تمثّل بصمةً سوداء في تاريخها، إذ كان الأجدر بأميركا أن توجه العقوبات إلى منتهكي حقوق الإنسان، أي الاحتلال وقادته، وليس إلى الذين يسعون إلى تقديم منتهكي الحقوق إلى العدالة الدولية. تجدر الإشارة إلى إمكانية تجاوز كلّ هذه العقبات عبر تظافر الجهود الدولية لملاحقة مرتكبي إحدى أكبر الفظاعات في القرن الحالي.

قراءة المقال بالكامل