"الجزء الإلهي من الدماغ" لماثيو ألبرت: التجربة الروحية من منظور علمي

منذ ٣ ساعات ١٤

في عالم يزداد تركيزه على العِلم والتكنولوجيا، لا تزال الأسئلة الروحية والدينية تحتلّ مكانة مركزية في حياة البشر. عبر متاهة من الفرضيات المثيرة للاهتمام، حول الأُسس العصبية للنزعة الروحية، يُقدّم الباحث الأميركي ماثيو ألبرت في كتابه "الجزء الإلهي من الدماغ"، الصادر بطبعة عربية عن "دار أدب" أنجزها حسين العبري، رؤيةً جديدة حول طبيعة الإيمان البشري، في مقاربة جريئة لتفسير ظاهرة الدين والروحانية. 

يمكن اعتبار هذا الكتاب جسرًا بين العالمين المادّي والروحي. فهو لا ينفي وجود الله أو الإيمان بقوى عليا، بل يطرح تفسيرًا علميًا لكيفية نشوء الإيمان في الدماغ البشري. هذا النهج يسمح للقرّاء بالتفكير في معتقداتهم بشكل نقدي، دون أن يشعروا بأنهم مضطرّون للتخلّي عنها، من خلال اعتماده على فرضية أساسية، بأن الإيمان بالله أو القوى الخارقة ليس تجربة خارجية أو إلهية، بل هو نتاج بيولوجي متأصّل في الدماغ البشري، تطوَّر عبر آلاف السنين لمساعدة الإنسان على مواجهة أسئلته الوجودية العميقة والمقلقة.

يطرح الكاتب فكرة أنّ الدماغ البشري قد يكون "مبرمجًا" بيولوجيًا للبحث عن معنى أو قوة أعلى في الحياة. بعبارة أُخرى، قد يكون الإيمان جزءًا من تكويننا البيولوجي الفطري، وليس مجرّد نتاج ثقافي أو اجتماعي. يتساءل: "لماذا يبدو أن الإنسان، عبر مختلف الثقافات والعصور، يمتلك حاجة فطرية للإيمان بقوّة عليا؟".

الوعي بالموت

لكن بدلاً من النظر إلى هذا الميل كدليل على وجود إله، يربط هذه الفكرة بما يسميه "الوعي بالموت"، وهو السمة الفريدة التي يمتلكها الإنسان مقارنة بالكائنات الأُخرى. بمعنى آخر، عندما بدأ الإنسان يُدرك حتمية الموت، أصبح بحاجة إلى آلية نفسية للتعامل مع هذا الخوف الوجودي، وهنا ظهرت الروحانية كحلّ جزئي، يقول: "لعلّ وعي الإنسان الجديد بالموت خلق توتّرًا كبيرًا في الحيوان البشري، ما أدّى إلى ضغط انتقائي أثّر على فيسيولوجيا أدمغتنا"، كما أن الدماغ البشري طوّر "جزءًا" معيّنًا، ليس بالضرورة منطقة مادية محدّدة، بل وظيفة عصبية، مسؤولة عن توليد المشاعر الروحية والتجارب الدينية. هذا الجزء، كما يراه، هو نتيجة التكيّف التطوّري الذي ساعد البشر على البقاء كجماعات، فقد عزّزت المُعتقدات المشتركة الترابط الاجتماعي والأمل في مواجهة المجهول، كما أنّ التجربة الروحية بحدّ ذاتها هي شعور أصيل بالنسبة للإنسان، كما هو الحزن مثلًا، فالثقافات البشرية جميعها مرّت بالحزن، بالتوازي فإنّها تمرّ بالتجارب الروحية، يكتب: "كما وصفت الثقافات تجربة الحزن بكلمات مماثلة انطبق هذا أيضًا على التجارب الروحية".

يؤكّد كبار العلماء، مثل كارل يونغ وجوزيف كامبل وميرتشيا أيلياد، أنّ كلّ ثقافات العالم امتلكت تفسيرًا ثنائيّا للواقع، رأت الواقع مكوّنًا من مادّتين أو عالمين متميّزين: مادّي وروحي. بناء عليه تُعتبَر الأشياء المنتمية إلى العالَم المادّي ملموسة ومحسوسة، في المقابل يدرك البشر كذلك وجود عالم روحي، يتجاوز هذا العالم طبيعة الكون المادية الفيزيائية، فالأشياء التي تكوّن الروح ليست عُرضة لقوانين الطبيعة المادية. يطرح ماثيو ألبرت سؤاله المفترض قائلاً: "إن الإنسان، هذا الحيوان الموسيقي والرياضي واللغوي، هو أيضًا حيوان روحي. فإذا كانت السلوكيات الثقافية سمات موروثة جينيًّا أفلا ينبغي علينا الافتراض أنّ الأمر نفسه ينطبق على نزعة البشر للاعتقاد بواقع الروح؟ ألا يدلّ إيمان الثقافات البشرية كلّها بغضّ النظر عن مدى عزلتها بوجود عالم روحي على أنّ هذا الإيمان سمة موروثة في البشر؟".

يرى أنّ البشر يمتلكون وظيفة دينية طبيعية لا تُفارقهم

يحاول ألبرت الحصول على إجابة لهذا السؤال، من خلال وجهات نظر علمية أُخرى لباحثِين طرحوا أنماط أسئلة مشابهة، مثل كانط، وكارل يونغ، الذي يُفرد له فصلًا، ويوضّح أنه من العلماء الذين تبنّوا فكرة أن البشر يمتلكون ما سمّاه "وظيفة دينية طبيعية"، لكن ماثيو ألبرت من جانب آخَر يوجّه نقده ليونغ، في أنّ نظرياته لم تخضع لأبحاث العلوم العصبية النظرية الحديثة، لفهم طبيعة الوعي الإنساني، والوعي الجمعي، لأن هذه العلوم لم تكُن موجودة في زمنه.

لكن ألبرت يُقدّم أبحاثًا في مجال علم الأعصاب تُظهر كيف يمكن لتحفيز مناطق معينة في الدماغ أن يولّد تجارب شبيهة بما يوصف عادةً بالتجارب الروحية. على سبيل المثال، يشير إلى دراسات حول الصرع الصدغي، حيث يعاني بعض المرضى من رؤىً دينية أثناء النوبات، مما يدعم فكرته أن الروحانية قد تكون مرتبطة بوظائف الدماغ. ويستدلّ على هذا بأن الأجهزة التي قامت بتصوير أدمغة الرهبان البوذيين، حين كانوا في ذروة تأمّلهم، كشفت عن انخفاض مفاجئ في تدفّق الدَّم إلى اللوزة الدماغية، وبما أن اللوزة هي جزءٌ الدماغ المسؤول عن الخوف والقلق، فمن المنطقي أنه عندما ينخفض تدفق الدم إليها، فإن المخاوف والقلق تتبدد بشكل تلقائي، "مما يتركنا في حالة نصفها عبر الثقافات بالهدوء والبهجة والنعمة والسكون".

سمة مشتركة

يتناول الكتاب أيضًا الانتشار العالمي للمعتقدات الدينية عبر الثقافات المختلفة، معتبرًا ذلك دليلًا على أن الدين ليس ظاهرة ثقافية عشوائية، بل سمة بيولوجية مشتركة بين البشر. فيقارن ألبرت بين الممارسات الدينية في المجتمعات البدائية والحديثة، مشيرًا إلى أنها تعكس الحاجة ذاتها لفهم العالم، والسيطرة على الخوف من المجهول.

يستند الكتاب إلى مجموعة من العلوم، بما في ذلك "علم الأعصاب"، "علم النفس التطوري"، و"الفلسفة"؛ يشرح المؤلف كيف أن مناطق معينة في الدماغ، مثل الفص الجبهي، قد تكون مسؤولة عن تجاربنا الروحية أو الشعور بالارتباط بشيء أكبر من أنفسنا. كما يتناول كيفية تأثير المواد الكيميائية في الدماغ، مثل السيروتونين والدوبامين، على حالتنا المزاجية وتجاربنا الروحية.

وجهة نظر غير مؤسسة على تجارب علم الأعصاب والأنثروبولوجيا

يمزج ألبرت بين العلم وتجربته الشخصية، حيث يروي كيف بدأ بحثه بعد مواجهته أزمة وجودية دفعته للتساؤل عن معنى الحياة. مما يُضيف طابعًا إنسانيًا للكتاب، ويجعله أكثر جاذبية للقراء الذين شغلتهم أسئلة مشابهة. من نقاط قوة الكتاب أسلوبه السلس وقدرته على تبسيط الأفكار العلمية المعقدة. كما أنه يقدم وجهة نظر جديدة تتحدى التفسيرات التقليدية والنمطية للروحانية، مما يجعله محفزًا للتفكير. ومع ذلك، واجه هذا الكتاب انتقادات من علماء وفلاسفة يرون أن ألبرت يبالغ في تعميماته، خاصة أنه لا يمتلك خلفية أكاديمية متخصصة في علم الأعصاب أو الأنثروبولوجيا. كما أن فرضياته، رغم كونها مثيرة للاهتمام، تفتقر أحيانًا إلى أدلة تجريبية قوية تدعمها بشكل مباشر.

يُعد هذا الكتاب دعوة مفتوحة للتأمل في طبيعة الإيمان والروحانية من منظور علمي بحت. سواء اتفق القارئ مع ألبرت أو اختلف معه، فإن الكتاب ينجح في فتح نقاش حول أسئلة كبرى مثل: هل الدين نتاج الدماغ البشري؟ وهل يمكن للعلم أن يفسر كل شيء، حتى أعمق تجاربنا الروحية؟ هل الإيمان مجرد وهم خلقه الدماغ لمساعدتنا على التعامل مع تعقيدات الحياة، أم أن هناك حقيقة موضوعية وراء هذه التجارب الروحية؟ ثم يترك المؤلف هذه الأسئلة مفتوحة للقارئ، ممّا يشجّع على التفكير النقدي والاستكشاف الذاتي، إذ لا توجد إجابات يقينية جاهزة أو حاسمة، بل إن صفحات الكتاب محملة بتأويلات شتى، تحمل القارئ نحو التفكير والتمعّن في تجربته الروحية الخاصة، أيًّا كان بُعدها الوجودي، وأيًّا كانت حقيقتها.

 

* روائية وناقدة لبنانية مصرية

قراءة المقال بالكامل