"نطلب منكم جميعاً أن تتخلّوا عن حماستكم وبهجتكم بالعام الدراسي الجديد، وتتذكّروا الفلسطينيين الذين قُتلوا بأموالنا".. هو تصريح لأحد الطلاب المناهضين للحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة في بداية العام الدراسي الجديد، في حشدٍ من طلاب جامعة كولومبيا الأميركية وأساتذتها. يعيد التصريح (وغيره من تصريحات) أحداث هذه الجامعة إلى الواجهة، ويذكّر جماعياً بالشرارة الاحتجاجية الواسعة النطاق، التي انطلقت منها نُصرة للشعب الفلسطيني وحقوقه، حتى امتدّ نطاق التأييد والوعي بحقيقة ما يجري في قطاع غزّة إلى قطاعات واسعة من المجتمع الأميركي، أدركت أن الفلسطينيين يقاومون الاحتلال الاستيطاني، وهو ما تجلّى في العبارة: "ومن منا لا يشعر بالبهجة عند رؤية المُضطهَدين وهم يدمّرون الأسوار التي تحيط بهم، بل يطيرون إلى السماء هرباً وفرحاً بحرّية في الهواء؟ تحطّم الإحساس الجمعي بحدود الممكن، جعل الأمر يبدو كما لو أن أي شخص يمكن أن يكون حرّاً، كما لو كان بالإمكان إطاحة الإمبريالية والاحتلال والقمع". لم تكن هذه العبارة لناشط أو صحافي عربي أو مؤيّد لحركة حماس، بل هي للأستاذة الأميركية (ذات التوجّهات الراديكالية) جودي دين، وهي مُنظِرة سياسية وأستاذة في قسم العلوم السياسية في كلّيَّتَي هوبارت وويليام سميث في ولاية نيويورك، وحصلت على الماجستير والدكتوراه من جامعة كولومبيا.
نشرت جودي دين مقالتها بعنوان "فلسطين تتحدّث إلى الجميع" في مدونة Verso، ذات التوجّهات الراديكالية، في الـ9 من الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، وقد تسبّبت هذه المقالة في إيقافها عن عملها، ومنعها من استكمال محاضراتها في الفصل الدراسي الخالي؛ إلى حين التحقيق معها. ولم تكن تلك الحالة الأولى، بل ثمّة عشرات الصحافيين والطلاب والأكاديميين الذين واجهوا اتهاماتٍ وتحدّياتٍ كبيرة، بل تعرّضوا للفصل أو الاعتقال، نظراً إلى ما قدّموه من سردياتٍ مخالفة لتلك الداعمة لإسرائيل. وتشهد حالتَا رئيستَي جامعتي بنسلفانيا وهارفارد على ذلك، فقد اضطرّتا للاستقالة، الواحدة تلو الأخرى. في العاشر من ديسمبر/ كانون الأول الماضي (2024)، استقالت رئيسة جامعة بنسلفانيا الأميركية، إليزابيث ماجيل، بعد أيام من شهادتها في جلسة استماع في الكونغرس، وتلتها كلودين جاي، أوّل امرأة سوداء ترأس جامعة هارفارد، فقد تبنّى كلُّ منهما إجابات دبلوماسية وغير مباشرة في مواجهة تساؤلاتٍ تقود إلى تفسير تظاهرات الطلاب بأنها معادية للساميّة واليهود، ومهدّدة لأمان الطلاب، من دون التطرّق إلى مقاصد المحتجّين، ومطالب وسبب اتساع رقعة الاحتجاج يوماً بعد الآخر. وكانت النائبة الجمهورية، إيليز استيفانك (ستصبح لاحقاً في ظلّ إدارة ترامب المندوب الدائم للولايات المتحدة في الأمم المتحدة)، قد تسبّبت في أزمة الاستقالات تلك؛ خاصّة عندما عمدت إلى امتحان رؤساء الجامعات في مسألة معاداة الساميّة، واعتبار أن تلك الاحتجاجات داعية لإبادة اليهود.
حدود الحرّيات: انتقاد إسرائيل
يبدو واضحاً أنه رغم الحرّيات الواسعة في المجتمع الأميركي ليس مسموحاً بأي انتقاد لإسرائيل أو لسياساتها، ناهيك عن مجرّد مناقشة ما حدث يوم 7 أكتوبر (2023) من منظور مختلف، وصولاً إلى التجرّؤ على اعتباره من أعمال المقاومة، كما فعلت أستاذة العلوم السياسية في مقالها الداعم للمقاومة، في وقتٍ يجاهر فيه سياسيون وحُكّام ولايات أميركية وإعلاميون، بأن من حقّ إسرائيل أن تدافع عن نفسها، وأن العدوان على غزّة يمثّل ردّاً طبيعياً في الدفاع عن النفس. وعلى سبيل المثال، صرّحت حاكمة ولاية نيويورك، كاثلين هوتشل، بأنه " في حال قامت كندا بمهاجمة مدينة بافلو الأميركية، فإنه في اليوم التالي لن تكون هناك كندا، هذا ردّ طبيعي، لأنه لدينا الحقّ أن ندافع عن أنفسنا، وأن نضمن أن هذا لن يتكرّر، وهذا أيضاً هو حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، الأمر الذي يكشف الدعم الصريح لحملة التدمير والإبادة الجارية على غزّة، في حين يُقمع الرأي الآخر المتفهّم مواقف الفلسطينيين ومقاومتهم.
وبالرغم من أن الحراك المناهض للعدوان على غزّة لم يتوقّف في الولايات المتحدة والدول الأوروبية، فإن وصوله إلى الجامعات الأميركية مثّل نقطة تحول جوهرية، فتحول من خطة للتظاهر بعض الوقت إلى استراتيجية التخييم في معسكرات اعتصام في حرم الجامعات، من أجل تحرير مساحة حرّة خارج سيطرة السلطة الإعلامية والنيابية، التي تُصرّ على اعتبار ما يقوم به الطلاب خرقاً للقانون؛ ومعاداة للساميّة.
عملية حظر الحركات الطلابية المناصرة لفلسطين أحيت حركات أخرى، منها حركة جامعة كولومبيا للتخلّص من العنصرية
كان من الممكن أن تكون احتجاجات الجامعات الأميركية من الاحتجاجات المعتادة في الحياة السياسية واليومية الأميركية، غير أن أحداثاً استثنائية وغير مسبوقة قادت إلى إعادة إشعال احتجاجات واسعة، علاوة على مشاركة جمهور عريض من أصحاب المبادئ الديمقراطية، وأنصار الحرّيات، وحقوق الإنسان، الذين استُثيرت حفيظتهم من سلوك إدارة جامعة كولومبيا. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أهمية الانتماءات الفكرية لطلاب الجامعة، فأغلبهم ينتمون إلى روابط وتنظيمات طلابية ذات مقاصد حقوقية وإنسانية وقومية وإثنية وفنية، بل وشخصية... وغيرها، ممّا تُسمّى الحركات الاجتماعية الجديدة (NSM). ومن أبرز تلك الحركات الطلابية في جامعة كولومبيا كانت حركة أصوات يهودية من أجل السلام (JVP) وحركة طلاب من أجل العدالة في فلسطين (SJP)، وهما من أكثر الحركات التي تحمّلت مهام التنظيم والتعبئة للاحتجاج من أجل غزّة وحقوق الشعب الفلسطيني، في مواجهة حركة طلاب يدعمون إسرائيل (SSI)، التي حرصت على الظهور بمحاذاة كلّ تظاهرة مؤيّدة للفلسطينيين، والادعاء بأن شعارات مناصري فلسطين هي معاداة للساميّة، ودعوى لإبادة اليهود.
تفكيك التحالف المناصر لفلسطين
وبشكل مبكّر، نشط طلاب جامعة كولومبيا من أجل غزّة؛ وذلك بإيعاز من هاتين الحركتين الطلابيتين: "أصوات يهودية من أجل السلام" و"طلاب من أجل العدالة في فلسطين". ففي 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 (بعد أيّام من 7 أكتوبر) تجمّع الطلاب لإدانة العدوان الإسرائيلي، الذي أودى بحياة آلاف من سكّان قطاع غزّة، وقد حمل المتظاهرون أعلام فلسطين، وهتفوا بحرّيتها، بعد أن توقّفوا دقيقة صمتٍ للحداد على أرواح الأبرياء الذين قُتلوا، وقاموا بمحاكاة لمقتل آلاف المدنيين في غزّة، بافتراش العشرات منهم الحديقة في صورة أجساد مقتولة.
وحتى صباح الأربعاء (17 أبريل/ نيسان 2024) كانت الأمور تسير كالمعتاد؛ لم يقطعها غير ذهاب رئيسة جامعة كولومبيا، نعمت شفيق، لحضور استجواب من إحدى لجان الاستماع بالكونغرس حول الاحتجاجات التي تضرب الجامعات، ومنها كولومبيا، ويبدو أن مستويات الاتهام بالضعف واللوم (من نوّاب جمهوريين متعاطفين مع إسرائيل) قد قادت رئيسة الجامعة إلى إبداء مواقف متشدّدة، حتى إنها قالت إن الطلاب "يعلمون جيّداً أن انتهاك قواعدنا سيكون له تبعاته". وفي اليوم التالي طلبت نعمت شفيق من الشرطة فضّ الاعتصام، باعتباره غير قانوني، ويعرّض الطلاب للخوف وعدم الأمان، الأمر الذي ترتّب عليه اقتحام الشرطة تجمّعات الطلاب واعتقلت منهم زهاء مائة، وهو أكبر عدد معتقلين من الطلاب في حرم جامعتهم منذ نهاية حرب فيتنام، الأمر الذي أحدث أكبر دورة تعبئة طلابية في عشرات الجامعات الأميركية.
ولرأب الصدع، وجّهت شفيق (22/4/2024) خطاباً إلى مجتمع الجامعة عملت فيه على تحميل المحتجين تبعات ما حدث، وأكدت فيه أن "هذه الاحتجاجات قد استُغلّت وضخّمت بواسطة أفراد لا ينتمون إلى الجامعة، جاءوا إلى الجامعة من أجل تحقيق أجنداتهم الخاصّة"، غير أن هذا الخطاب قد زاد من حنق الطلاب، الذين عبّروا، في تعليق لهم، عن استنكارهم "عدم ذكر الدافع الأساس للاحتجاجات، إذ تجاهلت شفيق ذكر غزّة أو فلسطين أو معاداة الإسلام، واكتفت بذكر عبارات غامضة من قبيل الصراع المخيف في الشرق الأوسط، وما له من تبعات إنسانية، وإذا كانت شفيق محقّة في إدانة معاداة السامية، فإنها بذلك تتعمّد رسم صورة مُريبة حول مناصري الفلسطينيين، حتى تُظهرهم بأنهم متعصّبون وكارهون للآخر".
وكانت إحدى طالبات القانون في جامعة كاليفورنيا قد عبّرت عن تضامنها مع طلاب جامعتها بقولها: "نعتبر أن طلاب جامعة كولومبيا، وما قاموا به، بمثابة قلب الحركة الطلابية"، ما يدل على اتساع مساحة الحراك الطلابي ورقعته، واكتسابه حلفاء وأنصاراً جدداً، خاصّة مع الاستمرار في تهديد الطلاب والأساتذة واعتقال وفصل عشرات منهم، ولم تتراجع جامعة كولومبيا أو تُبدي مرونة في مفاوضاتها مع الطلاب، بل اختيرت في 28/4/2024 (للمرّة الأولى) طالبة إسرائيلية لتكون رئيساً للهيئة الطلابية لجامعة كولومبيا، وهي مايا بلاتك، التي خدمت مجنّدة في وحدة المتحدّث العسكري للجيش الإسرائيلي، وصرّحت لصحيفة إسرائيلية بأنها "رغم تمثيلها جميع الطلاب تعارض ما يحدث هنا من احتجاجات، لأن محتجّين كثيرين لا يفهمون". ووصفت مايا الحركة الاحتجاجية بأنها معادية للساميّة، وانتقدت بشكل صريح زملاءها وأساتذتها، الذين يحاولون نزع الشرعية عن الدولة اليهودية في العالم. وهو الخطاب الصهيوني نفسه الذي يبرّر احتلال إسرائيل أرض فلسطين، وانتهاك كرامة شعبها. الجدير بالذكر أن تلك الطالبة رفضت الاحتجاجات الطلابية ضدّ الصهيونية وإسرائيل، واعتبرتها تهدّد أمان الطلاب وسلامتهم.
سعت القوى المعارضة لاحتجاجات الطلاب المعارضين للحرب الإسرائيلية على غزّة إلى تفكيك قوة احتجاجات الطلاب، وحتى قبل أن تأخذ الاحتجاجات منحى أكثر إلهاماً، ففي 10 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي (2024)، قرّرت جامعة كولومبيا تعليق وحظر أنشطة طلاب من أجل العدالة في فلسطين (SJP)، ومنظّمة الصوت اليهودي من أجل السلام (JVP)، حتى نهاية الفصل الدراسي، وما يعنيه ذلك من عدم قدرتهما على القيام بأي فعاليات احتجاجية، وكذلك توقّف حصولهما على التمويل المالي من الجامعة، الأمر الذي ترتب عليه احتجاج ما يقارب مائة من أعضاء هيئة التدريس والعاملين والطلاب ضدّ هذا القرار.
ليس ممكناً تصفية الحركة المناصرة لفلسطين بوعود أو تهديدات، خاصّةً أن قوامها قاعدة شبابية واسعة
وكانت عملية حظر الحركتان ملهمة لإعادة إحياء حركات أخرى، أهمها حركة جامعة كولومبيا للتخلّص من العنصرية، وهو تحالف طلابي نشأ في 2016، لكنّه عاد إلى الوجود بقوة بعد منتصف أكتوبر/ تشرين الأول (2024)، خاصّة عقب حظر الجامعة نشاطات وتمويل حركتي أصوات يهودية من أجل السلام، وطلاب من أجل العدالة في فلسطين. ويرفض طلاب التحالف مشروع الحركة الصهيونية جملة وتفصيلاً، ويرفضون حظر نقد الصهيونية، أو الربط بينها وبين اليهودية، فالصهيونية لديهم تعني " استمرار إسرائيل في انتهاك القانون الدولي".
وقد حدد هذا التحالف الطلابي CUAD أهدافه (نشرها في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024)، واعتبر أن هدفه الرئيس "تحدي العنف الاستعماري الاستيطاني الذي ترتكبه إسرائيل بدعم من الولايات المتحدة وحلفائها"، ويحذّر بيان التحالف محاولات الجامعة إسكات صوت الطلاب بقوله :"إن استخدام الجامعة لسياسة إسكات الطلاب سلاحاً، يُمكّن من ارتكاب الفظائع التي قامت بها إسرائيل تجاه الفلسطينيين عقوداً من الزمن، وهي الفظائع التي بدأت عندما أجبرت المليشيات الصهيونية بعنف أكثر من 700.000 فلسطيني، أي 75%ة من السكان، على الخروج من منازلهم في عام 1948".
يحمل البيان توقيعات تشمل 94 حركة طلابية، مثل ائتلافات الطلاب اللاتينين والأفغان والصوماليين والآسيويين، والاشتراكيين والشيوعيين والمسلمين واليهود والشواذ، ومجموعات الدفاع عن حقوق الإنسان، والمهاجرين، وحقوق عدالة السكن، وحقوق السود، وحقوق الطلاب العاملين، والأميركيين الأصليين، علاوة على مجموعات فنية وغنائية ومجموعة للرقص... وغيرها، يعود تاريخ ظهور كثير منها إلى فترة الستينيّات.
مظلّة جامعة: إصرار أكبر
لعلّنا ندرك القوة التنظيمية والتنوع لذلك التحالف الطلابي عندما نعلم أنه مظلّة جامعة لتلك المجموعات وغيرها، التي تنتشر في كلّ كلّيات الجامعة، ورغم تباين تلك الحركات في منطلقاتها ومصالحها، إلا إنها جميعاً تدين للفكر الراديكالي ومقاومة الاستغلال والاستعمار، وتفخر بميراثها المشترك، الذي ورثته من حركة طلاب 1968، إلا أنها اتفقت جميعها على الاصطفاف خلف ذلك التحالف من أجل إنهاء الفصل العنصري الإسرائيلي، وذلك عبر حثّ جامعة كولومبيا على سحب وإلغاء جميع المصالح الاقتصادية والأكاديمية مع إسرائيل، خاصّة إغلاق مركز تلّ أبيب، التي تنوي الجامعة إنشاءه بالتعاون مع مؤسّسات إسرائيلية، ويرى طلاب التحالف أنهم بذلك يسعون إلى وضع حدّ لجميع أنظمة القمع المتشابكة من خلال العمل الجماعي والتضامن مع المضطهدين في جميع أنحاء العالم.
وكان طلاب جامعة كولومبيا قد وجّهوا رسائلهم إلى إدارة الجامعة، وإلى مجتمع الطلاب عبر صفحة مستقلّة هي صفحة The Spectator Editorial Board، التي تتألف هيئة تحريرها من طلاب ممثّلين لكلّ مجتمع الجامعة، ويكتب الطلاب في صفحتهم بحرّية واستقلالية، ويستقبلون جميع الأراء ووجهات النظر، إلا أن موقفهم الأخلاقي الداعم لحقوق الشعب الفلسطيني كانت واضحةً، خاصّة بعد قرار رئيسة الجامعة، نعمت شفيق، استدعاء الشرطة وفضّ اعتصام الطلاب، واعتقال 108 طالب. إذ شنّت هيئة التحرير هجوماً على تصريحات وسلوكيات نعمت شفيق، خاصّة أنه عقب فضّ الاعتصام واعتقال عشرات الطلاب، تبيّن أن ابنة النائبة الديمقراطية إلهان عمر من بين المعتقلين.
وكان Colin Roedl أبرز محرّري صفحة طلاب جامعة كولومبيا قد أكّد أن اقتحام الشرطة زادهم قوة وإصراراً بقوله "لقد أثار اعتقال الطلاب وفض الاعتصام غضباً واسعاً واستعدادا أكبر وإصرار على التظاهر، بل وتواصل معنا طلاب من العديد من الجامعات ليُعبّروا عن دعمهم لنا"، بل إن الأساتذة وأعضاء هيئة التدريس قد بدأوا في التعبئة لصالح رفض الطريقة التي تم بها إجبار الطلاب على المغادرة، وعدم الاستماع لصوتهم، ورفعوا شعارات "نحن ندعم طلابنا"، بغضّ النظر عمّا إذا كان بعضهم يدعم فلسطين أو إسرائيل.
فشل المفاوضات: عنصرية وإقصاء
في 29 إبريل/ نيسان 2024، أعلنت جامعة كولومبيا فشل مفاوضاتها مع الطلاب، وبالرغم من وعود شفيق من أنها لن تستدعي الشرطة مرّة أخرى، إلا أنها قد طلبت بالفعل من الشرطة فضّ الاعتصام واحتلال الطلاب قاعة هاملتون، التي سمّاها الطلاب "قاعة هند"، لإحياء ذكرى الطفلة هند رجب، التي قُتلت هي وعائلتها ومسعفيها بأيدي قوات الجيش الاسرائيلي، وعلّقت شفيق على ذلك الأمر بقولها "اتخذت قراراً بمطالبة شرطة مدينة نيويورك بالتدخّل لإنهاء احتلال قاعة هاملتون، وتفكيك المعسكر الرئيسي إلى جانب معسكر جديد أصغر حجماً... وأشكر شرطة نيويورك على احترافيتهم ودعمهم المذهلَين".
بعد أسابيع قليلة من اغتيال مارتين لوثر كنغ، تجمّع المئات من طلاب جامعة كولومبيا، رافعين لافتة عريضة كُتب عليها "للتمرّد ما يبرره"
وكانت واحدة من أساتذة النظرية السياسية بإحدى كلّيات الجامعة قد علّقت على دخول الشرطة الجامعة، وفضهم الاعتصام بالقوة، بقولها: "غير معقول أن يحدث ذلك، فكيف لي أن أختبر الطلاب في النظرية السياسية للحرّية بعد ذلك؟... نحن جامعة كولومبيا وليس الإدارة... كولومبيا لا تريدك أن تعرف". بهذه الشعارات واجه الطلاب خطاب نعمت شفيق، وكتب بعض الطلاب في صفحاتهم يدعونها إلى زيارة مخيّمات الاعتصام والاستماع إلى مطالب الطلاب، لكنّها لم تفعل، ورفضت تلبية مطالب الطلاب الخاصّة بإلغاء الاستثمارات مع إسرائيل، وخاصّة الشركات الداعمة والممولة للحرب على غزّة، علاوةً على مطلب شفافية البيانات الخاصّة بالأموال في ذلك الصدد، علاوة على إلغاء تدشين مركز تلّ أبيب بالجامعة، ليس لشيء، إلا لأنه يستبعد منح الطلاب الفلسطينيين أيّ منح أو برامج دراسية، وبما يؤكّد نواياه العنصرية الإقصائية.
عاد الطلاب مرّة أخرى للتجمّع والاعتصام ليس فقط في ساحة حرم جامعة كولومبيا، رغم إلغاء الجامعة الحضور الشخصي للمحاضرات، وامتدّت شرارة الاحتجاج، والشعور المشترك بين الطلاب، في عشرات الجامعات الأميركية، فالطلاب في جامعات ميشيغان، ونورث كارولينا، ومعهد ماساتشوتس للتكنولوجيا، عملوا على الفور في محاكاة اعتصام جامعة كولومبيا، واحتشد المئات من الطلاب الساخطين في جامعة نيويورك، حيث تدخّلت الشرطة واعتقلت عشرات الطلاب في جامعة نيويورك، وكذلك جامعة ييل في نيوهيفن بولاية كونيتيكت، وحدثت مصادمات عنيفة بين الشرطة والطلاب في جامعة تكساس، وفي كلّ الجامعات كان يتم اعتقال العشرات، وفي جامعة كاليفورنيا اعتقلت الشرطة المئات من الغاضبين لما حدث مع زملائهم في كولومبيا، علاوة على الرافضين للعدوان على غزّة، وصارت المصادمات والقسوة سائدة في التعامل اليومي للشرطة مع الاحتجاجات، علاوة على التحريض من النخب السياسية والإعلامية، والقيادات الجامعية، الأمر الذي تمخّض في اعتداء مجموعة طلابية متطرّفة داعمة لإسرائيل على اعتصام الطلاب في جامعة كاليفورنيا.
ولم تتوقّف دورة التعبئة الطلابية رغم اقتراب نهاية الفصل الدراسي، وإلغاء العديد من حفلات التخرّج؛ حتى لا يُسمح للطلاب بالتضامن مع غزّة أو مع زملائهم في جامعة كولومبيا، والذين يُصرّحون دائماً بأن ما نتعلّمه بالجامعة تقوم الإدارات الجامعية بكسره بكل جسارة.
تاريخ من المقاومة
ولعلّ هذه الأحداث الراهنة تناسب حلول ذكرى الأحداث التي شهدتها جامعة كولومبيا بداية من إبريل 1968، بل إن طلاب تحالف جامعة كولومبيا المناهض للعنصرية يفخر بأنه وريث ذلك الجيل المناضل. وعند العودة إلى تاريخ جامعة كولومبيا سنجد أن لها تاريخاً حافلاً من المقاومة، بل إنك ستجد تراثاً شاهداً على أحداث مشابهة، ومطالب متقاربة، ففي صبيحة 23 إبريل 1968، وبعد أسابيع قليلة من اغتيال مارتين لوثر كنغ، تجمّع المئات من طلاب جامعة كولومبيا، رافعين لافتة عريضة كُتب عليها " للتمرّد ما يبرره" ، وكان قُوام أولئك الطلاب يقوم على مجموعة من اليساريين الجُدد المنضوين تحت لواء حركة طلاب من أجل مجتمع ديمقراطي، وكانت حديقة Morningside هي ساحة التجمّع لهم؛ حيث انطلقوا منها متّجهين نحو مكتب رئيس الجامعة، غرايسون كيرك. واختار الطلاب تلك الحديقة بالتحديد نظراً لمعارضتهم إنشاء صالة للألعاب الرياضية داخل تلك الحديقة العامّة، وبما يعزل دخول تلك الصالة عن أبناء الحي، إذ اعتبر الطلاب أن تلك الصالة ستكون رمزاً عنصرياً.
كانت الستينيّات حقبة ملتهبة نظراً لتفاقم حجم التناقضات داخل المجتمع الأميركي، علاوة على حرب فيتنام، والتورّط في كمبوديا، وأضحت الجامعات مراكز نشطة للتعبئة والاحتجاجات
وفي الحديقة، حطّم الطلاب جدران تلك الصالة، ثمّ تحركوا حتى نجحوا في احتلال مكتب رئيس الجامعة، وعدّة مبان تابعة للجامعة، مُعلنين مطالبهم حتى ينهوا اعتصامهم؛ وتحدّدت في؛ أن تقطع الجامعة روابطها البحثية مع المؤسّسات التي تخدم استمرار الحرب على فيتنام؛ أن تتوقّف الجامعة عن عملية إنشاء صالة الألعاب الرياضية في الحديقة السابق الإشارة إليها.
ولم يكن رئيس الجامعة كيرك موجوداً، لكنّه طلب (عبر الهاتف) من العميد "ديفيد ترومان" أن يستدعي الشرطة لطرد الطلاب من مباني الجامعة، إلا أن هذا الإجراء قاد إلى تصعيد الاعتصام وزيادة حدّة الاضطرابات داخل الحرم الجامعي، إذ ظلّ الطلاب ستّة أيام معتصمين، وعقب اشتباك الشرطة مع الطلاب المعتصمين، اعتُقِل أكثر من 700 طالب، بينما أصيب مائة طالب. كانت تلك واحدة من أكبر عمليات الاعتقال في تاريخ مدينة نيويورك؛ إلا أن تلك الحادثة عملت على تحفيز كثير من الطلاب حول الولايات المتحدة للمشاركة في اعتصامات واضرابات طلابية واسعة، وفي النهاية استجابت الجامعة لمطالب الطلاب رغم قمع حركتهم واعتقال وإصابة العشرات منهم، إذ عادوا مرّة أخرى (بعد فضّ اعتصامهم) إلى احتلال بعض مباني الجامعة مصطحبين معهم بعض سكّان حي Harlem، الذين رفضوا سياسات توسّع الجامعة على أساس الممتلكات العامّة، وقد عمل القمع في حدّ ذاته على زيادة حدّة التعبئة وتنشيط شبكاتها. كانت حقبة ملتهبة نظراً لتفاقم حجم التناقضات داخل المجتمع الأميركي، علاوة على حرب فيتنام، وما لبثت الولايات المتحدة أن تورّطت في كمبوديا، وأضحت الجامعات الأميركية مراكز نشطة للتعبئة والاحتجاجات سنوات عديدة.
خاتمة
تثبت الأحداث الراهنة صعوبة تصفية الحركة المناصرة للحقوق الفلسطينية داخل الجامعات الأميركية؛ فليس ممكناً إنهاء أو تصفية تلك الحركة عبر وعود أو تهديدات متصاعدة، خاصّةً أن قوام تلك الحركات الجديدة يرتكز على قاعدةٍ شبابية واسعة، ليس لها مطالب شخصية، أو دعاوى محدودة الأجل والتنفيذ. ومن ثمّ، فإن القمع لتلك الحركة سيزيد من قوتها وتنظيمها وقدرتها على جلب أنصار جدد. ورغم التكهّنات العديدة بعدم قدرة تلك الحركة على تغيير بنية وتوجهّات النظم السياسية الغربية ونخبها، إلا أن الأثر المعرفي أو الثورة الثقافية، التي يمكن أن تنجح في صناعتها تلك الحركة، ليست بعيدة المنال، بل إنها تكتسب قوتها من مساحة البلبلة الاجتماعية والسياسية التي نجحت تلك الحركة في خلقها حول العالم، وفي أرقى الجامعات والمعاهد العلمية، أو كما يسترجع الطلاب اليوم مقولة طلاب 1968 الخالدة: "كُن واقعياً واطلب المستحيل". إذاً، فليس مستحيلاً أن تتركوا غزّة تعيش، كما يقول الطلاب الآن، في حرم الجامعات الأميركية والأوربية.
