الحكومة السورية تعيد هيكلة الاقتصاد بتسريح "الأشباح" والخصخصة

منذ ٢ شهور ٤١

تسعى الحكومة السورية المؤقتة إلى إجراء إصلاحات جذرية لاقتصاد البلاد المنهك، بما في ذلك خطط لتسريح ثلث موظفي القطاع العام وخصخصة شركات مملوكة للدولة كانت تهيمن على الاقتصاد خلال حكم عائلة بشار الأسد الذي دام نصف قرن. أثارت وتيرة الحملة المعلنة للقضاء على إهدار المال والفساد احتجاجات من موظفي الحكومة، من أسبابها أيضا مخاوف من التسريح على أساس طائفي.

وتمت بالفعل أولى عمليات تسريح العاملين بعد أسابيع فقط من إطاحة المعارضة بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول. أجرت وكالة رويترز مقابلات مع خمسة وزراء في الحكومة السورية المؤقتة التي شكلتها جماعة هيئة تحرير الشام. وتحدث جميعهم عن النطاق الواسع للخطط الرامية إلى تقليص عدد موظفي القطاع العام، مثل تسريح عدد كبير من "الموظفين الأشباح"، وهم من كانوا يتقاضون رواتب مقابل عمل قليل أو لا يقومون بأي عمل إبان حكم الأسد.

في عهد الأسد ووالده حافظ، سيطر الجيش والدولة على النشاط الاقتصادي الذي كان يحابي بطانة من الحلفاء وأفراد العائلة، وهيمن أفراد الطائفة العلوية التي تنتمي إليها عائلة الأسد على القطاع العام. وقال وزير الاقتصاد في الحكومة السورية المؤقتة باسل عبد الحنان (40 عاما) إن هناك الآن تحولا كبيرا نحو "اقتصاد السوق الحرة التنافسي". وفي عهد الرئيس المؤقت أحمد الشرع، ستعمل الحكومة السورية المؤقتة على خصخصة الشركات الصناعية المملوكة للدولة والتي قال عبد الحنان، الذي كان مهندسا سابقا في مجال الطاقة، إن عددها 107 شركات معظمها خاسرة.

ومع ذلك، تعهد بإبقاء أصول الطاقة والنقل "الاستراتيجية" مملوكة للدولة. ولم يذكر أسماء الشركات التي ستباع. وتشمل الصناعات الرئيسية في سورية النفط والإسمنت والصلب. وقال وزير المالية محمد أبازيد في مقابلة إن بعض الشركات المملوكة للدولة يبدو أنها موجودة فقط لسرقة الموارد وستُغلق. وأضاف أبازيد أنهم كانوا يتوقعون تفشي الفساد لكن ليس إلى هذا الحد.

وأوضح أبازيد إن 900 ألف فقط من أصل 1.3 مليون موظف يتقاضون رواتب من الحكومة يأتون إلى العمل بالفعل، واستند في ذلك إلى مراجعة أولية. وقال أبازيد (38 عاما) في مكتبه إن هذا يعني أن هناك 400 ألف من "الموظفين الأشباح" ، مضيفا أن التخلص من هذه الأسماء من شأنه توفير موارد كبيرة. 

وذهب محمد السكاف، وزير التنمية الإدارية الذي يشرف على تعداد العاملين في القطاع العام، إلى أبعد من ذلك، إذ قال إن الدولة ستحتاج إلى ما بين 550 ألفا و600 ألف موظف، أي أقل من نصف العدد الحالي. وذكر أبازيد أن هدف الإصلاحات، التي تسعى أيضا إلى تبسيط النظام الضريبي مع العفو عن العقوبات، هو إزالة العقبات وتشجيع المستثمرين على العودة إلى سورية.

وأردف أبازيد، الذي عمل سابقا خبيرا اقتصاديا في جامعة الشمال الخاصة قبل أن يشغل منصب مسؤول الخزانة في معقل المعارضة في إدلب عام 2023، بأن الهدف هو أن تكون المصانع داخل البلاد بمثابة منصة إطلاق للصادرات العالمية. 

الحكومة السورية المؤقتة ونموذج إدلب

قبل اجتياح دمشق في الهجوم الخاطف الذي أطاح الأسد، أدارت هيئة تحرير الشام إدلب باعتبارها منطقة، تابعة للمعارضة منذ عام 2017، جذبت الاستثمار وأنشطة القطاع الخاص مع تخفيف البيروقراطية وتحجيم الفصائل المتشددة. وقال الوزراء الثلاثة إن الحكومة الجديدة تأمل زيادة الاستثمار الأجنبي والمحلي على مستوى البلاد لخلق فرص عمل جديدة مع إعادة بناء سورية بعد صراع دام 14 عاما.

لكن من أجل تكرار نموذج إدلب، يتعين على هيئة تحرير الشام التغلب على تحديات هائلة، من بينها العقوبات الدولية التي تؤثر بشدّة على التجارة الخارجية. وقالت مها قطاع ، كبيرة أخصائيي المرونة والاستجابة للأزمات في المكتب الإقليمي للدول العربية بمنظمة العمل الدولية، إن الاقتصاد حاليا ليس بحالة تسمح له بتوفير ما يكفي من الوظائف في القطاع الخاص. وأضافت أن إعادة هيكلة القطاع العام "أمر منطقي"، لكنها تساءلت عما إذا كان ينبغي أن يكون ذلك على رأس أولويات الحكومة التي تحتاج أولا إلى إنعاش الاقتصاد. وتابعت: "لست متأكدة مما إذا كان هذا قرارا حكيما حقا".

وفي حين يقر بعض المنتقدين بضرورة تحرك الحكومة السورية المؤقتة سريعا لإحكام قبضتها على البلاد، فإنهم يرون أن نطاق ووتيرة التغييرات المزمعة مبالغ فيها. وقال آرون لوند، الزميل في مركز سينشري إنترناشونال للأبحاث الذي يركز على الشرق الأوسط: "إنهم يتحدثون عن عملية انتقالية لكنهم يتخذون القرارات كما لو كانوا حكومة جرى تنصيبها بشكل شرعي". وتعهد الشرع بإجراء انتخابات لكنه قال إن تنظيمها قد يستغرق أربع سنوات. 

امتصاص الصدمة

قال وزير الاقتصاد في الحكومة السورية المؤقتة إنه ستُوضع السياسة الاقتصادية لإدارة تداعيات الإصلاحات السريعة في السوق، لتجنب فوضى الركود والبطالة التي أعقبت "العلاج بالصدمة" الذي شهدته في التسعينيات الدول الأوروبية التي كانت ضمن جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق. وأضاف عبد الحنان أن الهدف هو تحقيق التوازن بين نمو القطاع الخاص ودعم الفئات الأكثر احتياجا.

وأعلنت الحكومة السورية المؤقتة زيادة رواتب موظفي الدولة، التي تبلغ حاليا نحو 25 دولارا شهريا، بنسبة 400% اعتبارا من فبراير/ شباط. وتعمل أيضا على تخفيف وطأة تسريح العاملين عن طريق منحهم مكافأة نهاية الخدمة أو منح بعض الموظفين إجازة مدفوعة الأجر لحين تقييم الاحتياجات. وقال حسين الخطيب، مدير المرافق الصحية بوزارة الصحة: ​"نقول للموظفين الذين جرى تعيينهم فقط لتلقي رواتب: من فضلكم خذوا راتبكم وابقوا في منازلكم، ولكن دعونا نقوم بعملنا".

ومع ذلك، هناك شعور واضح بالفعل بعدم الارتياح. وأظهر عاملون قوائم متداولة في وزارتي العمل والتجارة تنهي برامج توظيف العسكريين السابقين الذين قاتلوا مع الحكومة ضد المعارضة في عهد الأسد. وقال محمد، وهو واحد من هؤلاء العسكريين السابقين، إنه سُرِّح من وظيفته مدخّلَ بيانات في وزارة العمل يوم 23 يناير/كانون الثاني ومُنح إجازة مدفوعة الأجر لمدة ثلاثة أشهر.

وذكر أن حوالي 80 عسكريا سابقا آخرين تلقوا الإشعار نفسه الذي اطلعت عليه رويترز. من جانبها، قالت وزارة العمل إنها منحت عددا من الموظفين إجازة مدفوعة الأجر لمدة ثلاثة أشهر لتقييم وضعهم الوظيفي، ومن ثم النظر في وضعهم، بسبب عدم الكفاءة الإدارية والبطالة المقنعة.

وأثارت هذه الخطط احتجاجات، في يناير/ كانون الثاني، في مدن، من بينها درعا في جنوب سورية حيث اندلعت شرارة الثورة ضد الأسد في عام 2011، وفي اللاذقية على الساحل السوري. كانت هذه الاحتجاجات أمرا غير متصور في عهد الأسد الذي رد على التظاهرات ضده بحملة قمع أشعلت الحرب الأهلية. وحمل موظفو مديرية الصحة في درعا لافتات "لا للفصل التعسفي" و"قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق" خلال تظاهرة شارك فيها نحو 24 شخصا.

وقال أدهم أبو العلايا، الذي شارك في التظاهرة، إنه يخشى من فقدان وظيفته التي عُين فيها عام 2016 لإدارة سجلات المديرية وتسوية فواتير المرافق. وعبر عن تأييده القضاء على ظاهرة التوظيف الوهمي، لكنه نفى تقاضيه هو أو زملائه أجرا من دون القيام بعمل. وأردف يقول إن راتبه يساعده على توفير الاحتياجات الأساسية، مثل الخبز والحليب، وإعالة أسرته، موضحا أنه يعمل في وظيفة أخرى أيضا لسد احتياجات عائلته. وأضاف أن البطالة ستزيد حال تنفيذ هذا القرار، وهو ما لا يستطيع المجتمع تحمله.

أكوام من الملفات

ذكر وزير المالية أبازيد أنهم اكتشفوا منذ توليهم السلطة فسادا وإهدارا هائلا للمال، بما في ذلك في المؤسسة السورية للتجارة، وهي شركة عامة لتوزيع السلع الاستهلاكية قال إنها كانت تتلقى أموالا من الحكومة لعقد من الزمن، وحتى أيام قليلة قبل رحيل الأسد، من دون أن تقدم أي بيانات رسمية حول الإيرادات.

ولم يكشف عن حجم الأموال، ولم تتمكن رويترز من التحقق من صحة ذلك. وقال أبازيد إن الحكومة السورية المؤقتة أغلقت الشركة. وفي الوقت الراهن، ليس لدى الإدارة سجل موثوق به لموظفي الحكومة. وتعمل على بناء قاعدة بيانات لموظفي القطاع العام وتطلب من الموظفين استكمال نموذج على الإنترنت. وقال وزير التنمية الإدارية إن السجل سيحتاج حوالي ستة أشهر لبنائه، مع وجود فريق من 50 شخصا يتولون المهمة.

وأقرّ وزير العمل فادي القاسم بصعوبة المهمة المقبلة، وقال إن أعمال التجديد تكون أكثر صعوبة من البناء الجديد. وتخطط الحكومة السورية المؤقتة أيضا لرقمنة سجلات الموظفين المخزنة حاليا في حوالي 60 غرفة مهملة يكسوها الغبار وتحتوي على أكثر من مليون مجلد، الكثير منها مربوط بالخيوط ويعود تاريخها إلى العصر العثماني الذي انتهى منذ أكثر من قرن.

وبالنسبة لهبة البعلبكي (35 عاما) وهي أخصائية رقمنة في وزارة العمل، فإن هذا التوجه كان مفاجئا ومشجعا. وقالت إنه في ظل الحكومة السابقة، رفضت الإدارة جهودها لتحديث طريقة حفظ السجلات لتواكب القرن الحادي والعشرين، بما في ذلك منصة إلكترونية ظلت تعمل عليها عامين. 

(رويترز)

قراءة المقال بالكامل