"الخالدون": معاينة حدثٍ من زاويتين متكاملتين جمالياً

منذ ٣ ساعات ٨

 

الثورات والانتفاضات الجماهيرية يُمكن أنْ تُحبَط. لكنْ، أيمكن أن تُحبَط معها آمال مشاركين فيها وأحلامهم، إلى الأبد؟ تأخذ المخرجة السويسرية مايا تشومي (1983) هذا السؤال إلى بغداد، لتُعاين مآلات "انتفاضة تشرين" العراقية، بعد سنوات على توقّفها، لعلّها تجد جواباً عن السؤال الملحّ، والملازم لحركات سياسية كثيرة، ذات طابع جماهيري عفوي، لم تبلغ نهاياتها المرتجاة. الهاجس السينمائي لملاحقة حدثٍ ـ هَزّ أركان الكيان السياسي العراقي، وولَّد مزاجاً شعبياً راغباً في التغيير ـ مفهومٌ ومتاحٌ لكل صانع فيلم، يريد توثيقه سينمائياً.

السؤالان النقديان عنه مشروعان: بأي أسلوب يُتَنَاول؟ من أي منظور إخراجي وكتابي يُعالَج الحدث التاريخي المدوّي والدراماتيكي المؤلم؟

تُخبِر صانعة "الخالدون" (2024) مُشاهِدها كتابةً: مقاطع من وثائقيّها أُعيد تمثيلها، وفي مفتتحه، يُزوّده بمعلومات عن "انتفاضة تشرين" (2019)، وبعدد الضحايا الذين سقطوا وأصيبوا جرّاء الفعل السلطوي الدموي. في السرد، يقول إنّها اختارت شابة وشاباً من المشاركين في الاحتجاجات، ومن ملازمتها إياهما، يمكنها إكمال وثائقيّها، وكل ما يلزم ليكون جيداً ومستوفياً اشتراطات الصنعة السينمائية.

لا تخفي تشومي انحيازها الأنثوي. ولحسن حظّها، عثرت على ملاك، الفتاة التي اضطرت تغيير مظهرها الخارجي، لتبدو صبياً. عند المُصوّر الخليلي، الشاب المتحمس والمندفع، وجدت خامات فيلمية وتسجيلات، يُمكن التأسيس عليها بصرياً لتوثيق مسار الاحتجاجات، وتفاصيلها المُشبعة بانفعالات المشاركين فيها وتفاعلاتهم. بوجودهما، وبما تنقله من مشاهد مباشرة للحديث، تعاين السويسرية الانتفاضة التشرينية من زاويتين، تكُمل إحداهما الأخرى.

يوزع النص (سيناريو محمد الخليلي وتشومي) مساره الدرامي على ثلاثة فصول، كل فصل يضع إحدى شخصياته المركزية في بؤرته، ويُترَك لها مساحة كافية للتعبير عن مشاعرها وأفكارها، بالحاصل معها في البلد. في فصل "معارك خفية"، تنقل ملاك (ميلو، كما يسمّونها تحبّباً) تجربتها المؤلمة مع والدها، الذي يمنعها من الخروج من المنزل، ويجبرها على ترك كل نشاط خارجي لها. جراء انكفائها، وخيبة التجربة التي خاضتها في ساحة التحرير، تعاني قلقاً وأرقاً، وشعوراً طاغياً باللاأمان. تغيير مظهرها من صبية إلى صبي يُتيح لها حرية أكبر للحركة، وفرصة نادرة لاكتشاف مزايا الذكورية السائدة في مجتمعها.

على عكس الأنوثة، الجالبة لها حصاراً ومنعاً وتهديداً بالقتل، تعطيها الذكورية الشكلية رحابة ممزوجة بحزن لفقدان ما تحبه في نفسها بوصفها فتاة تتطلّع إلى الحرية، والعيش كما هي في مكان آمن ومعافى. من أجل هذا خرجت إلى ساحة التحرير مع الحشود الرافضة لنظام سياسي فاسد. تجربتها، المنقولة بتعابير صادقة، تجلي قمعاً حاصلاً للمرأة العراقية، الأمل بزواله كامنٌ في فكرة الخروج إلى ساحة يتساوى فيها الجنسان، وتتعالى فيها الأصوات المطالبة بفضاء أنقى للجميع.

بين رغبتها في الخروج من "سجنها"، مُتنكّرة، للمضي في عيش حياتها في المدينة التي تحبها، وقرار الرحيل منها، تتنازع دواخل ملاك، وترتبك مسارات حياتها. حياة الخليلي، قبل خوضه تجربة المشاركة في الانتفاضة، لا تختلف عما هي عليه عند شباب كثيرين. بدخوله ساحة التحرير، وتصويره للحاصل فيها، يجد نفسه كائناً له معنى. في التجربة ومخاطر توثيقها بالكاميرا، يجد معنى كبيراً، يقارب المعنى الذي أحسه لحظة اكتشاف موهبته في التصوير، وإنجازه إعلاناً تجارياً لأول مرة. عفويته وتوتره الظاهر يشيان بداخل مضطرب نقي، يلازمهما إحساس عميق بالعدالة. تجد تشومي فيه، وبما يُصوّره، ما يكفي لرسم بورتريه سينمائي له، وتوثيق ملازم لتجربة خاضها مع آلاف الشباب، من دون إدراك لما ينتظرهم عند الطرف الآخر، الكامن لهم من بعيد، والمُخطِط لتصفيتهم بدم بارد.

 

 

المُلازمة الطويلة لملاك تفضي إلى مشهد عام لواقع عراقي قاهر للمرأة والرجل على السواء. في سياق التوثيق، تتلاشى الانحيازات الأنثوية الحادة من متن منجز سينمائي دقيق التوازن، بين نقل المشهد العام الحاصل في ساحة التحرير، بكل محمولاته السياسية والفكرية، وتجسيدها شخصيات متشبّثة بأمل الخلاص، رغم ما تعانيه من إحباط وخذلان. تشبّث يبدو غير مفهوم وغير منطقي التعويل عليه، لكنه حاضر وجليّ الظهور في ثنايا البوح والسلوك.

عنوان الفصل الثاني، "استقالة"، يؤشّر إلى منبعه. في الشهر الثاني من "احتجاجات تشرين"، ومع تصاعد وتيرتها واتساع شعبيتها، يضطر رئيس الوزراء إلى تقديم استقالة حكومته. ينشر القرار فرحاً بين "ساكني" ساحة التحرير، ويشيع في دواخلهم أملاً بخلاص نهائي من فساد وفشل سلطة سياسية. لن يدوم ذلك طويلاً، لأنّ الموت والرعب سيحلاّن في كل مكان تتعالى فيه أصوات المحتجين، وسينسحب كثيرون جرّاء ما يواجهون من عنف منفلت، ومن تلاشي أحلام بدت لحظة تقديم الاستقالة قريبة من التحقّق.

بعدها، تغيب ميلو شهوراً، وينسحب الخليلي، بعد إصابته بأعيرة نارية، إلى وسط عائلي محافظ، بعيداً عن العالم الحالم، الذي وجد فيه معناه الحقيقي، ولم يقبل التخلّي عنه، فسريعاً عاد ليوثّق بكاميرته حراكاً سياسياً جديداً.

في آخر الفصول، "القرار"، تتشابك المشاعر وتضطرب. الإحباط المتغلغل في ملاك يدفعها إلى التفكير بالرحيل. ومن صديقتها المقرّبة إليها، تطلب بإلحاح الذهاب معها. بين رفض وقبول، تتنازع المواقف. وفي لحظة، تقرّر ملاك لوحدها التوجّه إلى المطار، لكنّها تتردّد. ومن دون الإفصاح صراحة عن قرارها الأخير، يتركنا "الخالدون" أمام نهاية مفتوحة على كل الاحتمالات، المؤكّد فيها أنّ من يجرّب مغامرة التغيير لن يتخلّى بسهولة عن حلمه برؤية ثورته اكتملت فصولها.

تأتي المخرجة السويسرية من بعيد لتوثّق الحدث العراقي باشتغال سينمائي جميل، يمحي الحدود الفاصلة بين المُعاد تمثيله والمُوثّق بالكاميرا الميدانية، بفعل التداخل الدقيق (توليف ألكس بكري) بين المُصَوَّر بعد الانتفاضة (سيلفو غرير) والمَشاهد الحيّة المباشرة ناقلة الاحتجاجات (محمد الخليلي)، المُحقِّق تناغمها رفعاً عالياً لجماليات الاشتغال السينمائي. هذا يُثير ضمناً تساؤلاً عن سبب تأخّر السينمائيين العراقيين عن توثيق الحدث التاريخي، وكثيرون منهم شاركوا فيه، ولم يبق عليهم سوى التشبّه بمايا تشومي، أو الاقتراب من تجربة ابن بلدهم كرار العزاوي، الذي أكمل مُنجزه "بغداد تثور" (2023)، رغم وجوده في النرويج، بعيداً عن مكان الحدث.

قراءة المقال بالكامل