الرقة... حبيبة هارون الرشيد المظلومة

منذ ٧ ساعات ٦

لم تُظلم محافظة في سورية كما ظُلمت الرقة. تُركت في الهامش السوري زمناً طويلاً. لم تعرها كل الأنظمة التي تعاقبت على سورية الاهتمام الذي تستحقه.

عندما تُذكر الرقة في أحاديث السوريين (على ندرتها)، يحضر الإقصاء والتهميش. كانت العنوان الأبرز للمحافظات المنسيّة. سكانها عربٌ ينتمون إلى أعرق القبائل والعشائر، فهي ديار مضر قبل الفتح الإسلامي وبعده. وترابها ذهب، فهي من السلال الغذائية المهمة في سورية. وباطنها يضم كثيراً من الذهب الأسود. نهرها الفرات عليه أقيمت السدود التي تضيء جانباً كبيراً من بيوت السوريين. وعلى سريره حقول القمح التي لا تنتهي. وباديتها مراح لثروةٍ حيوانيةٍ لا غنى لسورية عنها. رغم ذلك، لم تدخل الرقة وريفها مترامي الأطراف في المتْن السوري قبل عام 2011. وعندما دخلته بعد انطلاق الثورة، دخلته ضحية لا أكثر. تركها السوريون تُذبح وحدها أكثر من مرة.
الرقة من المحافظات السورية الكبيرة في الحدود الإدارية، فمساحتها أكثر من 20 ألف كيلو متر مربع. تبدأ غربا من حدود حلب الإدارية لتصل شرقا إلى الحدود الغربية لمحافظة دير الزور. وفي الجنوب باديتها الواسعة، وتصل حدودها شمالا إلى التخوم السورية التركية. يشطرها نهر الفرات من الوسط، فالأرض التي تقع جنوبه يطلق عليها الرقّيون اسم "الشامية"، وتلك التي تقع شمال النهر يطلقون عليها تسمية "الجزيرة".
مدينة الرقة عاصمة المحافظة التي تحمل الاسم نفسه، تقع على الضفة الشمالية لنهر الفرات، وتبعد عن العاصمة دمشق نحو 500 كيلومتر. تذكر كتب التاريخ أنها لطالما كانت مزدهرة في العهد الروماني بسبب موقعها المتميز على النهر الذي ينبع من بلاد الأناضول ويخترق سورية والعراق كي يلتقي جاره دجلة في جنوبه البعيد عن الرقة، أما منطقة الرصافة التي تتبع إداريا للرقّة (40 كيلومترا جنوب غرب)، كانت من أهم مقاصد الحج المسيحي للاحتفاء بذكرى القديس سيرجيوس. الرصافة تُعرف اليوم بـ"رصافة هشام بن عبد الملك"، الخليفة الأموي القوي الذي كان يحكم نصف الدنيا من قصره في الرصافة التي كانت ذات يوم بعيد جوهرة حضارية مشعّة. حظيت الرقة باهتمام الأمويين والعباسيين على حد سواء. بنى بالقرب منها الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور مدينة الرافقة، لا يزال جزء من سورها صامداً، كما لا يزال جانبٌ من قصره (البنات) موجودا مع آثار عباسية أخرى، ولكن حفيده هارون الرشيد اتخذ الرقّة مصيفا له، إذ كان، كما تذكر مصادر تاريخية، يخرج من بغداد إلى الرقة، ولا يرى الشمس بسبب كثافة الأشجار على الطريق. وصفها الشاعر العباسي ربيعة الرقي:
حَبَّذا الرِقَّةُ داراً وَبَلَد      بَلَدٌ ساكِنُهُ مِمَّن تَوَد
ما رَأَينا بَلدَةً تَعدِلُها        لا وَلا أَخبَرَنا عَنها أَحَد
إِنَّها بَرِّيَّةٌ بَحرِيَّةٌ           سورُها بَحرٌ وَسورٌ في الجدَد
لَم تُضَمَّن بَلدَةٌ ما ضُمّنَت    مِن جَمالَ في قُرَيشٍ وَأَسَد

عاشت الرقّة بين 2014 و2017 تحت وطأة خوف وتشدد لم تعرفه في تاريخها

منذ تشكّل الدولة السورية عام 1920، لم تولِ الأنظمة التي تعاقبت على السلطة كثير اهتمام بالرقّة، وظلّت تفتقر إلى المدارس والخدمات الرئيسية. في الستينيات، شهدت الرقّة نهضة مع بدء تشييد سد الفرات. ولكن الاهتمام الحكومي لم يكن كافيا، فالرقة لم تنل ما تستحق، فلا جامعة، ولا مستشفيات ولا طرق تليق بالمحافظة التي تدرّ لبناً وعسلاً. تركها النظام المخلوع خاصرة رخوة لمشروع إيراني هدفه تغيير الهوية. في الرقّة قبران لصحابيين معروفين في التاريخ الإسلامي هما: عمّار بن ياسر وأويس القرني، حاول الإيرانيون اتخاذهما "كعب أخيل" لضرب ثقافة المنطقة الشرقية. صرفت طهران الأموال الطائلة من أجل هذا المشروع الذي حشدت لتنفيذه عددا من الأفاقين. ولكنه ذهب أدراج الرياح في عام 2013، العام الذي شهد انتقال الرقة وريفها من الهامش السوري الواسع إلى متنه، فهي أولى المحافظات التي خرجت عن سيطرة بشّار الأسد. كانت طائرات النظام البائد تقصف بلا هوادة السكان المدنيين، وصواريخ السكود تقتل وتدمر الرقة التي وجدت نفسها شيئا فشيئا أسيرة ورهينة لدى تنظيم "داعش". في بداية عام 2014، سيطر التنظيم على الرقة وريفها لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ مدينة سحرت الشاعر السوري الأشهر نزار قباني حين زارها في 1979، فقال مخاطبا أديب الرقة الشهير وطبيبها عبد السلام العجيلي (1918 - 2006): أعطني ليل الرقة وخذ نساء دمشق. بين عامي 2014 و2017، عاشت الرقة تحت وطأة خوف وتشدد لم تعرفه في تاريخها.
كثيرون من شبابها ورجالها ذُبحوا بسيوف التنظيم الذي كان يرمي جثث قتلاها في حفرة "الهوتا" الواقعة إلى الشمال من المدينة بنحو 85 كيلومترا. تحوّلت الرقة إلى عاصمة ثانية للتنظيم بعد الموصل العراقية، ما جر عليها الويل. دُمّر أغلب مباني الرقة وجسورها ومراكزها الحيوية في معركة دارت رحاها في عام 2017 حتى خرج التنظيم منها. لا يوجد إحصائيات لعدد قتلى طيران التحالف الدولي، ولكن المؤكد أن جثث آلاف السكان لا تزال تحت الأنقاض. لم تكن هناك بواكٍ للرقّة. تُركت كما كانت تُترك دائما في النوازل والملمّات، وحدها تصارع للبقاء. انتقلت السيطرة إلى قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ذات الطابع الكردي. رايات صفراء اللون رُفعت بدل الرايات السود في محافظة قلوب أهلها خضراء. ربما لم تشهد مدينة سورية تحولات سياسية وفكرية كالتي شهدتها الرقة التي دخلت اليوم مع محافظتي دير الزور والحسكة سوق المساومات السياسية بشكل فج.
لم يُحسم أمر الرقة بعد في سورية الجديدة، فلا تزال معلقة ما بين يأس ورجاء. رغم كل ما أصاب الرقّة منذ عام 2011، ورغم ما مرّ عليها من سُلطات أمر واقع، لا يزال فراتها يجري وليلها يسحر، تفرح لفرح السوريين وتحزن لحزنهم، وان ضنّوا عليها بفرح أو حزن.

قراءة المقال بالكامل