تساهم توترات علاقة أوروبا بالحليف الأميركي، منذ إظهار الرئيس القديم-الجديد دونالد ترامب، لمخالب المصلحة الأميركية قبل أي شيء آخر، في زيادة معضلة القارة الأوروبية؛ إذ تبحث عن استقلالٍ تسليحي تامٍ عن واشنطن. في الأسبوع الماضي خصص الأوروبيون نحو 800 مليار يورو لتقليل اعتمادهم على الصناعات الدفاعية الخارجية، ولتعويض بعض ما فقدته مخازنهم العسكرية منذ بداية الحرب الأوكرانية، ويأتي المبلغ الضخم المخصص للسنوات الأربع القادمة ومعظمه (650 مليار يورو)، على شكل زيادة إنفاق دول أوروبا العضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ونحو 150 ملياراً قروضاً للسنوات الخمس القادمة.
التمويل الذي جاء بقرارات سياسية، وبدفع من رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، يصوّر القارة كأنها في سباق مع الزمن بعد اتضاح اختلاف الحليفين عبر الأطلسي حول أولويات وتحديات مصالحهما القومية والقارية، إذ لم يعد سراً أن واشنطن لا ترى روسيا تهديداً بالقدر الذي يراه الأوروبيون، وتواجه أوروبا بفعل سياسات وتصريحات ترامب معضلةً رئيسية حول حماية أمنها والدفاع عن قارتها منفردة، أي دون الضمانات الأمنية الأميركية القائمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945، ويبرز في هذا الاتجاه وصول الضغط الأميركي على الأوروبيين إلى مستوى مسّ قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم.
أف 35... تعطيل أميركي عن بعد
البحث عن بدائل لتسليح القارة العجوز من الضفة الأخرى للأطلسي بات يفرض إعادة تفكير أوروبي بمصادر السلاح الذي تراجع إنتاجه محلياً بعد انتهاء الحرب الباردة رسمياً في عام 1992، ويزيد من تهاوي الثقة الأوروبية بالحليف الأميركي تسريبات أميركية مبكّرة، مع توتر علاقة ترامب برئيسة حكومة الدنمارك ميتا فريدركسن بسبب إصراره على شراء غرينلاند وضمها إلى أميركا، عن إمكانية تعطيل واشنطن عن بعد للسلاح الجوي الدنماركي من طراز أف 35.
مستوى الخطاب وصل في كوبنهاغن إلى اعتبار أن واشنطن لم تعد حليفاً موثوقاً، وخلال الساعات الأخيرة، وعلى خلفية تصريحات ترامب بأنه سيضم غرينلاند، أجمعت الطبقة السياسية الدنماركية والغرينلاندية على إظهار الامتعاض والغضب لغياب "احترام وحدة وسيادة مملكتنا"، كما عبرت فريدركسن ووزير خارجيتها الليبرالي لارس لوكا راسموسن، إعادةً للتأكيد الجماعيّ، أنّ غرينلاند ليست للبيع.
ليست كوبنهاغن وحدها من يستشعر أضرار سياسات ترامب، بل أغلبية دول الاتحاد الأوروبي، وتتخذ من أزمة "ضم غرينلاند"، مؤشراً على المستوى الذي يمكن أن يصل إليه الرجل في تحقيق رغباته. ويقرأ هؤلاء اشتعال السجال حول إمكانية الضغط الأميركي على بلد صغير كالدنمارك بليِّ ذراعه للتنازل من خلال الإيحاء أن واشنطن قادرة على تعطيل طائرات أف 35 الدنماركية (تملك 27 مقاتلة منها)، ويأتي هذا السجال بعد أن كُشف في الدنمارك أن الأميركيين قاموا بالفعل بتعطيل بعض منظومات أف 16 التي تبرعت بها كوبنهاغن لأوكرانيا، وأشار خبراء دنماركيون (تشارك بلادهم في برنامج إنتاج هذه المقاتلة) إلى أنه من الممكن بالفعل تعطيل أف 35 من خلال شبكة بيانات التشغيل المتكاملة "أودين".
وعلى خلفية السجال، والأخبار التي تتحدث عن تدخل أميركي فعلي لتعطيل أنظمة أف 16، رأى الرئيس السابق لمؤتمر ميونخ للأمن فولفغانغ إيشينغر، بحسب صحيفة بيلد الألمانية، أنه "إذا كان علينا أن نخشى أن تفعل الولايات المتحدة الشيء نفسه مع طائرات أف 35 كما تفعل مع أوكرانيا الآن (بطائرات أف 16)، فيجب النظر في إلغاء العقد لاستكمال شراء المقاتلات (الأميركية)". وتمتلك ألمانيا بعض مقاتلات أف 35، لكنهم الآن يناقشون التوجه نحو مقاتلة يوروفايتر (الفرنسية-الألمانية)، إذ يقول خبراؤهم إن مسألة تعطيل أميركا لطائرات أف 35 "ليست شائعة، فهناك طريقة بسيطة تتمثل في تعطيل نظام تخطيط المهمة، ما يعني تعطيل هبوط المقاتلة"، كما عبر مدير في شركة الدفاع الألمانية للصحيفة.
وكان من المخطط أن تحصل ألمانيا على المزيد من أف 35 في صفقة بلغت حوالى 10 مليارات دولار أميركي، وأشارت "ذا تيلغراف" البريطانية إلى أن الأميركيين يزعجهم أن تقوم ألمانيا باستخدام صواريخ منتجة أوروبياً على المقاتلة الأميركية، ولم يسمح حتى للبريطانيين تركيب صواريخ جو-جو الليزرية إلا إذا كانت أميركية الصنع.
وكان هذا السجال قد ذهب بالبرتغال منذ أيام إلى إلغاء شراء المقاتلات الأميركية أف 35، إذ يتوقع الخبراء توسُّعاً أوروبياً في رفض استمرار الاعتماد على السلاح الأميركي، وتقول التقارير أيضاً إن الأميركيين بالفعل لم يعودوا يسمحون لحلفائهم البريطانيين بإرسال معلومات أمنية إلى الأوكرانيين من طائرة المراقبة البريطانية- أميركية الصنع "ريفر جوينت".
يتزايد النقاش حول ضرورة تبني النموذج الفرنسي في الاستقلال عن السلاح الأميركي
هذه التطورات تضع الأوروبيين أمام تحدٍ حقيقي مع تراجع الثقة بالأميركيين ونيّاتهم، وغير بعيد عن ذلك يتزايد النقاش حول ضرورة تبني النموذج الفرنسي في الاستقلال عن السلاح الأميركي، وخصوصاً أسلحة الجو.
ومن الواضح أن كبار صناعيي التسليح في أوروبا يستفيدون من هذه الأزمة المستجدّة، خاصة مع رغبة أوروبا في الاستقلال التسليحي، بدعوتهم إلى "سباق تسلّح مستقل"، وذهب في السياق مدير الدفاع والقسم الفضائي في شركة إيرباص، ميشيل شولهورن، إلى القول إنّ على القادة الأوروبيين ضرورة البدء في الاعتماد على التصنيع الدفاعي الذاتي، بما في ذلك ضرورة التسلح بمقاتلة يوروفايتر، ونوّه شولهورن، في تصريحات لصحيفة أوسبورغر ألغماينه الألمانية، إلى أن القادة في القارة العجوز عليهم أن يستوعبوا أن "زمن السلام ومكاسبه باتا من الماضي، ويجب أن نتسلّح وبسرعة"، محذراً من استمرار الاعتماد على أميركا.
