الشباب التونسي... غزّة والحرّيات

منذ ١٧ ساعات ١٩

عاد الشباب التونسي ليثبت وفاءه وتمسّكه بالقضايا المهمّة لوطنه وأمّته، فبعد أن ذهب الظنّ بكثيرين إلى الاعتقاد بأن هؤلاء شغلتهم دراستهم وهمومهم الذاتية عن الاهتمام بالشؤون السياسية، إذا بهم ينتفضون في لحظة حرجة، ليؤكّدوا حضورهم في الميدان. في هذه المرّة، نزلوا بكثافة في العاصمة، وفي مختلف المحافظات دعماً لأهل غزّة، ومساندةً للمقاومة، وتنديداً بالسياسة التصفوية للكيان الصهيونية والإمبريالية الأميركية. كما طالبوا بمقاطعة المؤسّسات التجارية الداعمة للجيش الإسرائيلي والمستوطنين، مع تركيز خاصّ على شركة كارفور. وعندما توفّي أحدهم (الطالب فارس خالد) في إثر سقوطه من مبنىً في إحدى المؤسّسات الجامعية، خلال محاولته تعليق العلم الفلسطيني، شارك عدد غفير من رفاقه في جنازته، وقلّلوا من قوة الصدمة على أسرته، خاصة والدته التي وصفوها بأمّ الشهيد، ممّا جعلها تطلق الزغاريد خلال خروج الجثمان من بيت العائلة. ذلك كلّه دليل إضافي على تبنّي عموم التونسيين قضية فلسطين، وتضامنهم المطلق مع غزّة وأهلها.

تجد السلطة نفسها مُحرَجةً وهي تتابع هذا الحراك الشبابي الواسع والرافع شعار "الشعب يريد تجريم التطبيع"، وهو الشعار الذي رفعته أطراف من المعارضة، واليوم اتسعت رقعة المنادين به في ضوء حرب الإبادة المتواصلة، وهو شعار ينسجم تماماً مع ما أكّده رئيس الدولة في أكثر من مناسبة. لكن الإشكال، الذي لم يفهمه كثيرون، يتمثّل في رفض رئاسة الجمهورية تقديم الدعم الفعلي لمشروع قانون يصبّ في هذا الاتجاه، تقدّم به نوابٌ في البرلمان من أجل تجسيد هذا الشعار، ودفع جميع الأطراف إلى تحمّل مسؤولياتهم. وما إن اقتربوا من تحقيق الهدف، حتى تقرّر برئاسة المجلس قبر المشروع، من دون تقديم مبرّرات مقنعة، إلى أن جاءت مسيرات الشباب لتكشف أن السلطة تلقّت إشارات من أطراف دولية "نصحتها" بعدم الانسياق وراء هذه السياسة، التي "ستحدث أضراراً فادحةً بالاقتصاد الوطني"، وقد تؤدّي إلى عزلة تونس سياسياً ودبلوماسياً. وهو ما وضع الرئاسةَ التونسية في نوع من ازدواجية الخطاب.

علاقة التونسيين بفلسطين قديمة وعميقة. قد يختلفون في شأن كيفية التعامل مع القضية، أو حول الوسيلة التي يمكن اعتمادها لتقديم الدعم. هناك من ينتقد "طوفان الأقصى" لأسباب أيديولوجية وسياسية، ونظراً إلى الموقف من حركة حماس باعتبارها من فروع الإخوان المسلمين، لكن غالبية التونسيين لا يتعاملون مع المسألة من هذا المنظور، فبالنسبة إليهم هناك شعب يراد تدمير قدراته على المقاومة، وهناك سعي حثيث من أجل تهجير الفلسطينيين والسيطرة على أرضهم من الصهاينة. لهذا، نزل جزء منهم إلى الشارع، ولم يقبلوا الروايات الصهيونية والأميركية المخادعة.

اللافت للنظر أن الشباب التونسي الغاضب لم يكتفِ بمساندة الفلسطينيين، وإنما اهتم جزء منهم بوضع الحرّيات في البلاد، وتابع قضية المساجين السياسيين الذين يتواصل الإصرار على محاكمتهم من بعد. لهذا جدّد هؤلاء المساجين رفضهم للقرار، وأعلنوا إضرابهم عن الطعام وسيلةً للاحتجاج. وبذلك يستمرّ التصعيد المتبادل بين الطرفَين، أحدهم يملك الشرطة والقضاء، ومَن في الطرف الثاني يدافعون عن أنفسهم بتعريض أجسادهم للخطر من خوضهم معركة "البطون الخاوية".

من الواضح أن مؤشّرات عودة الشباب التونسي إلى الاهتمام بالشأن السياسي قد تعدّدت، وإن لم تصبح عارمة. ولا شكّ في أن المحرقة الفلسطينية أسهمت في ذلك بوضوح، لكنّها ليست العامل الوحيد، فالهجرة غير النظامية تغذّي الشعور بالغضب لدى المتضرّرين من غياب الحلول والخضوع للضغوط الخارجية. كما أن الاختناق الاقتصادي يسهم بقوة في خلق مناخ اجتماعي يسوده الغموض والتوتّر. فالحملة المنظّمة التي تقف وراءها السلطة ضدّ البنوك سواء الحكومية منها أو الخاصّة من شأنها أن تزيد من درجة الاحتقان المباشر أو غير المباشر، فسياسة الهروب إلى الأمام قد تجعل السلطة مستفيدةً مؤقّتاً من هذا الهروب، لكن النفخ المتواصل في البالون من دون التحكّم فيه سيؤدّي حتماً إلى الانفجار.

قراءة المقال بالكامل