"الشيطان يُدخِّن": درسٌ في إدارة الأطفال سينمائياً

منذ ٣ ساعات ١٦

في "الشيطان يُدخِّن (ويحتفظ بأعواد الثقاب المحروقة في العلبة نفسها)"، أول روائي طويل له، تتجلّى براعة المكسيكي إرنستو مارتينيز بوسيو في عبقرية اختيار خمسة أطفال (بين 8 و14 عاماً)، وتوجيههم وإدارتهم، بنحوٍ يخلق دراما خاطفة وشديدة الحيوية والتشويق، ولا تخلو من فكر ومتعة.

أوجه الاشتغال الإخراجي المتميّز متعدّدة فيه. الملاحظة الأبرز أنّ الأطفال، رغم حداثة أعمارهم، أظهروا احترافاً ونضجاً في الأداء، وقدرة هائلة على ترديد الحوارات بطلاقة، ومهارة تمثيل وتحرّك بطبيعية وعفوية أمام الكاميرا (أودي زاباليتا). هناك أيضاً اعتناء كبير بكتابة السيناريو (مارتينيز بوسيو وكارين بلاتا)، وبراعة رسم شخصيات مستقلّة لكلّ طفل، والأهمّ صوغ حوارات حقيقية وصادقة، تتناسب مع كلّ مرحلة عمرية، وتتلائم مع مختلف المواقف.

يتكوّن الفيلم، الفائز بجائزة مسابقة "وجهات نظر" (تظاهرة جديدة للأفلام الأولى لمخرجين شباب، تبلغ قيمتها المالية 50 ألف يورو) في الدورة الـ75 (13 ـ 23 فبراير/شباط 2025) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)"، من لقطات متداخلة ومتقاطعة، كما يندر وجود تسلسلات كاملة طويلة وواضحة. ولأنّ الأحداث كلّها تدور في المنزل، هناك انتقالات كثيرة مُفاجئة بين الإضاءة والظلال. القطع التوليفيّ حاضرٌ بقوة وحدّة، فيكون انتقالٌ من حالة/موقف/خيط سرديّ إلى آخر، من دون استكمال ما سبق. كما تعمّد مارتينيز بوسيو توظيف لقطات من أشرطة فيديو منزلية، يُعيد الأطفال مشاهدتها، تثير أسئلة درامية كثيرة.

تقنيات تبدو أحياناً مُربكة ومزعجة ومُشتِّتة للانتباه. لكنْ، مع استيعاب منطق الفيلم وطبيعة التصوير وتعدّد الشخصيات، نألف غرابتها سريعاً، ونستوعب منطقها ووجاهتها، كما نألف كون التقنيات هذه طبيعية وضرورية. ففي النهاية، يُصوّر مارتينيز بوسيو الحركة النشطة أو المحمومة لأطفالٍ لا تهدأ طاقاتهم ولا تُستَنفد. لذا، طبيعيٌّ مجاراة التصوير والمونتاج لانطلاقة أطفال مُفعمين بالنشاط والطاقة والجنون وجموح الخيال، ولحيويتهم.

 

 

بدلاً من اتّباع السرد التقليدي، تتكشّف الأحداث (تسعينيات القرن الـ20) عبر مشاهد قصيرة، تُقدّم لمحات موجزة ومجتزأة عن حيوات خمسة أشقاء تُركوا برعاية جدّة، يبدو أنّ الانفصام يتمكّن منها. في البداية، اختفت الأم من دون سابق إنذار، ويُنتبه إلى هذا لاحقاً. فجأة، يخرج الأب بحثاً عن الأم، ولا يعود أيضاً. تدريجياً، ينسحب الأطفال إلى عالمٍ خانق بين جدران المنزل، ووحدة تشاركهم فيها جدّة، تعتقد بشكل راسخ أنّ الشيطان سيحضر إلى المنزل إنْ لم تُتّبع قواعد صارمة. مثلاً: عدم السماح للأطفال بمغادرة المنزل، تغطية النوافذ كلّها بالصحف والأكياس، فلا يستطيع أحدٌ أنْ ينظر إلى الداخل والخارج. هناك أيضاً حرص دائم كي لا يُقتَحم المنزل، أو يُعتدى عليهم. عامة، يتقبّل الأطفال وضعهم المعيشي ونقص الطعام، ويتعايشون مع الأحوال، من دون بكاء وتذمّر، مُكتفين مع عوالمهم الخاصة، وهذا أمر مُحيّر في الفيلم.

صحيحٌ أنّ هناك تمرّداً على الجدّة بين حين وآخر، كإعداد خطة سرقة مفتاح المنزل للّعب في الشارع بحرية، ما يترتب على هذا، وعلى غيره (مشاكسة الجيران)، عواقب غير متوقّعة. لكنْ، لا ملل من الانشغال بعوالم الأشقاء الخمسة، وتمضية أوقاتهم بين جدران المنزل. تدريجياً، ننخرط ونتورّط في مصائرهم، ونُجبر على الدخول إلى عقولهم وعوالهم، وإلى منزل عائلة بدت سعيدة في أشرطة الفيديو المنزلية، لكنّها تتفسّخ وتنهار، وتتّجه إلى مصير مجهول.

لا يُعرف سبب اختفاء الأمّ. لا أسئلة حول موعد عودة الأب. لا تُكتشف خلفية الهاجس الشديد للجدّة بالشيطان. بذكاء، يترك مارتينيز بوسيو للمتفرج حرية كبيرة للتخمين والتفسير، وهذا مكمن قوة. عناصر كثيرة يبقيها عمداً، بعيداً عن تفسير وتأويل. مثلاً: كلّ غامض أو خارق للطبيعة أو متعلّق بعوالم خفية أو مخيف للأطفال، يُلمّح إليه من دون تصريح أو تأكيد.

قبيل نهايته، تبلغ الأمور ذروتها مع انقطاع الكهرباء في المنزل، والاضطرار إلى استدعاء الشرطة بسبب خوفهم الكبير. بعد اطّلاع الشرطة على الوضع المعيشي للأطفال، وغموض المعلومات المتعلّقة بمكان الوالدين، يُستدعى مكتب الرعاية الاجتماعية. يدرك الأطفال أنّهم إزاء مشكلة كبيرة، فيتسلّحون بالكذب والاتّحاد لتنظيف المنزل، ونزع كلّ المُلصق على النوافذ. بدورها، تقترح الجدة أنْ يحرق كلّ منهم أحَبّ ما يملك. وهذا ينقل الفيلم إلى حالة رعب حقيقية على مستقبلهم، ويثير أسئلة: هل الأفضل لهم الانفصال أو العيش معاً في وضع كارثي كهذا؟ الأهمّ، بصرف النظر عن الأوضاع، ألن يكون وضعهم معاً أفضل من العيش مع أهل مُضطربين، لا يتحملون المسؤولية، وفي عائلة مُفكّكة ومدمّرة؟ أسئلة كهذه تزيد من غموض الفيلم، ومن إرباكه وقسوته.

"الشيطان يُدخّن" يتوفّر على جمال وحزن وغموض باطني، وعلى بعض المرح أيضاً. يضيف إرنستو مارتينيز بوسيو، إلى هذا، عدم اكتراثه أصلاً بتقديم توضيحات، أو بكشف أهم الخيوط، مُكتفياً فقط باستحضار حالات ومواقف وشحنات نفسية وعاطفية، ونقلها ببساطة شديدة، ومن دون افتعال وحذلقة.

قراءة المقال بالكامل