الطفل الذي سقط في قدر الطعام

منذ ١ شهر ٥٣

تصرّ الذكرى أن تعاودني وتنبش كل مخاوفي، وتؤكّد لي دوماً أن الفرح قد ينقلب إلى حزن. وتثير بداخلي تلك الحادثة البعيدة تساؤلاتٍ كثيرة بشأن مجتمع الفقراء الذي أوجده مخيم اللاجئين في جنوب قطاع غزّة، والذي يشبه الكثير من أماكن الفقر في العالم، المُصرّة على الاحتفال برمز الذكورة، وكأن هذا كل ما تملك، مثل الاحتفال بمناسبة ختان الطفل الذكر، الذي سوف يصبح رجلاً بعد سنوات، وهو من المناسبات التي أفردت لها الأسرة الفقيرة في المخيم يوماً خاصاً. وكلما كبر الطفل، قرّر أهله أن يجعلوا يوم الاحتفال بختانه حفلاً خاصاً، يقتنص الكثير من ميزانيتهم المتواضعة، ويجمع معظم أهل المخيم.

لذلك لا يمكن أن أنسى مشهد الطفل ابن الخامسة، وقد كان يركض بين الصغار، وهو يرتدي ثوباً واسعاً فضفاضاً، وفيما خلّصته أمّه من ملابسه الداخلية التحتية. ولذلك، كان يشعر بحرّية أكبر، وبأنه يطير أسرع من الأطفال الباقين الذين يرتدون كامل ثيابهم. وفيما كان يتسابق معهم في البيت الضيّق، كانت النسوة قد فرغت من إنضاج اللحم في قدر كبير واسع، في الساحة الخلفية من البيت، وهي ساحةٌ مشتركةٌ لعدة بيوت يتركونها فارغة بلا تنظيف، إلا حين الحاجة إليها لإقامة وليمة أو حفل زفاف. وهكذا وضع ذلك القدر الضخم، وإلى جواره قدر آخر مليء بالأرز المطهو بتوابل كثيرة، وحين انتشلت النسوة بكل حرص قطع اللحم الضخمة منه، لم يبقَ بداخله سوى المرق الساخن إلى درجة الغليان، فحملته امرأتان قويّتان وأدخلتاه إلى المطبخ. ولهذا الصنيع هدف آخر، أن بعض النسوة الفقيرات سوف يحملن الكثير من المرق في أثناء مغادرتهن حفل الغداء، وسوف يطهين عدة أطباق أياماً متتالية في بيوتهن باستخدام هذا المرق الدسم.

لم ينتبه أحد إلى تسابق الأطفال الصغار بلهو لم ينقطع إلا حين تدافعوا في المطبخ، وهنا كان الطفل الذي يحتفل الجميع بموعد ختانه بعد الانتهاء من تناول الوليمة قد سبق الجميع، وأعلن فوزه في سباق الجري، فما كان من طفل آخر إلا أن دفعه بحقد طفولي، مُعلناً احتجاجه، ولم يكن يعرف أنه قد دفعه ليسقط في قدر المرق الذي يغلي.

لا يمكن أن أنسى هذا المشهد، وكيف تحوّل الفرح إلى عويل وصراخ، حين أخرج الكبار الطفل بلحم مسلوق ومسلوخ من داخل القدر، ومدّدوه على أرضيّة باحة البيت المهشّمة بلا روح، وأدركتُ وقتها، وكنت في العاشرة من عمري، أن الفرح فعلاً يتحوّل إلى حزن في لحظة، ولكني لم أتخيّل أن هناك ميتة بشعة، مثلما رأيت بأم عيني، وكيف يمكن أن ينسلخ لحم الإنسان وجلده، ولا يبقى منه سوى هيكل عظمي، بل الأبشع تصوّراً كيف يمكن أن يسلق الإنسان ويُسلخ حيّاً بهذا الشكل؟ وهكذا بقيت هذه الذكرى قائمة في مخيّلتي إلى درجة أنني صرتُ أتهيّب من كل قدر ضخم في كل مناسبةٍ تجري دعوتي إليها، وأنزاح بأطفالي بعيداً عنها، على عكس المهلّلين لقدوم القدور، المُعلنة عن تقديم الطعام الشّهي العامر باللحم.

قبل أيام قليلة، سقط الطفل عبد الرحمن نبهان في قدر للطعام في وسط قطاع غزّة، المنكوب بحشود النازحين الباحثين عن "تكية طعام". وقد كان هذا الطفل جائعاً وينتظر دوره، ولم يكن الأطفال حوله فرحين، ولكنهم كانوا جائعين وبائسين، وقد انتظروا منذ الصباح الباكر في طابور طويل، وهم يحملون آنيتهم الفارغة. وبمجرّد الإعلان عن نضج الطعام، لم يعد هناك طابور، لأن الجميع تدافعوا بسرعة نحو القِدر الضخم، ويُطلق عليه في غزّة مسمّى آخر، وهو "الديست". ولأن كل هؤلاء يعرفون أن الطعام بداخله سوف ينفد قبل أن يصل إليهم الدور، وبتدافعهم أسقطوا الصغير الجائع ابن الخامسة، ومات ميتةً بشعة، أكثر بشاعةً من طريقة موت الطفل الذي علق مشهد موته في ذاكرتي، لأن الطفل قد مات جائعاً في قدر مليء بالطعام.

قراءة المقال بالكامل