مع بدء العدوان الإسرائيلي على إيران، كانت ثمة مخاوف من هشاشة الجبهة الداخلية الإيرانية على خلفية تراكم أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية، على مدى عقود، والتي تفاقمت خلال السنوات الأخيرة وانعكست من خلال احتجاجات الإيرانيين في البلاد. غير أنه مع استمرار هذا العدوان ضد إيران، وانتهاك سيادتها، ثم الانخراط الأميركي فيه، أصبح وضع الجبهة الإيرانية الداخلية مختلفاً، إذ تراجع بشكل كبير سقف التوقعات بأن هجوماً من الخارج سيولِّد ضغطاً من الداخل لتغيير نظام الحكم. وما يحدث في الوقت الراهن هو تلاحم داخلي ورصّ صفوف في مواجهة العدوان الخارجي، والذي تبدي العقلية الإيرانية حساسية شديدة تجاهه، بغض النظر عن طبيعة النظام الذي يحكم الإيرانيين. هذا الواقع الجديد، سواء كان مؤقتاً مرتبطاً بفترة العدوان أو مستمراً بعده، تعكسه حملات شعبية ونخبوية ضد العدوان، لإيرانيين في الداخل والخارج، تقود بعضها أو تشارك فيها تيارات وشخصيات معارضة أو منتقدة للنظام. يأتي ذلك إلى جانب تعليقات قيادات إصلاحية ومعارضة ومنتقدة، وتصريحاتها داخل البلاد أو خارجها.
علي موسوي خلخالي: على عكس بعض التوقعات تشكلت وحدة داخلية أمام عدوان الأعداء
وحدة الإيرانيين
يقول الناشط الإيراني، علي موسوي خلخالي، إنه على عكس ما توقعه البعض، "تشكلت وحدة داخلية أمام عدوان الأعداء"، مضيفاً في حديث لـ"العربي الجديد"، أن هذه الوحدة "تشمل جميع القوميات الإيرانية في الوقت الراهن، أتراكاً وأكراداً وعرباً وفرساً وألوراً (قومية اللور) وبلوشاً". ويشير في هذا السياق إلى "مشاهد الاستقبال والترحيب الحار من أبناء مدن لمواطنين من مدن أخرى أصبحت هدفاً مستمراً للهجمات الإسرائيلية، فضلاً عن إدانة زعماء الطائفة السنية الإيرانية الهجوم، والوقوف ضده في بيانات متعددة صادرة عنهم". لكن ذلك لا يعني أن الإيرانيين كلهم على قلب رجل واحد، وفق موسوي خلخالي، إذ هناك "جماعات معارضة مثل المنافقين (تسمية تُطلق في إيران على منظمة مجاهدي خلق المعارضة)، والملكيين (أنصار النظام البهلوي السابق)، كشفت عن عمالتها" بدعمها العدوان.
وكان رضا بهلوي، نجل الشاه محمد رضا بهلوي، أطلق تصريحات داعمة للهجمات الإسرائيلية على إيران، ما أثار غضباً وانتقادات حتى بين المعارضة الإيرانية، ومن والدته فرح بهلوي التي عبّرت عن رفضها للحرب، قائلة إن "قوتنا في وحدتنا، وفي تاريخنا المجيد، وإرادتنا الصلبة التي لا تعرف الهزيمة". ويخلص موسوي خلخالي، وهو رئيس تحرير موقع الدبلوماسية الإيرانية، إلى القول إن "الإيرانيين لديهم حساسية بالغة تجاه عزتهم وكرامتهم، والمساس بهذه العزة يُعد مساساً بكبريائهم الوطنية"، مضيفاً أن هذا الأمر بحد ذاته "يتحول إلى دعامة لتشكيل جبهة داخلية قوية في مواجهة إسرائيل".
قبل الحرب وبعدها
يقول الخبير الإيراني، صلاح الدين خديو، إن "حالة من عدم اليقين والضياع كانت قد سادت إيران، خصوصاً في الأسواق المالية والاقتصادية، قبل الحرب الإسرائيلية"، موضحاً لـ"العربي الجديد"، أنه "تبعاً لذلك، كان الناس في حالة من الحيرة والتخبط. كان هناك شعور سائد بالترقب الممزوج بالخوف والأمل". ويضيف أنه قبل اندلاع الحرب، كان معظم الناس ينتظرون أن يتضح المصير النهائي للأمور، سواء بالحرب أو بالسلام أو بالاتفاق أو بعدمه، أياً كان المآل".
صلاح الدين خديو: تحوّلت الصدمة لدى الإيرانيين في بداية العدوان إلى شعور بالغضب تجاه إسرائيل
وكان الشارع في الأيام الأولى للحرب التي اندلعت في 13 يونيو/ حزيران الحالي، وفق خديو "غارقاً في الذهول والصدمة، والشعور بأن البلاد تعرضت لعدوان مفاجئ، وأن النظام بوغت إلى هذا الحد، وفقد كبار قادته العسكريين". لكن هذه الصدمة الأولية بدأت "تفسح المجال تدريجياً لشعور القلق"، مؤكداً أن هذا القلق "ولّد شعوراً بالغضب تجاه إسرائيل، وحرية حركتها في الأجواء الإيرانية، واستهدافها لأهداف متعددة في البلاد، لدرجة أن أولئك الذين ينتقدون النظام، مستاؤون من هذه الهجمات، فهناك شعور بأن الكبرياء الوطني قد جُرح لدى الرأي العام". وعما إذا كانت الأزمة الاقتصادية في البلاد قد تفاقمت بعد بدء العدوان وتبعاته المحتملة على آراء المواطنين، يقول خديو إنه "حتى الآن، لم تتفاقم المشاكل الاقتصادية بشكل حاد، فالنقص الأولي الذي بدا في معظمه مصطنعاً، وناجماً عما يُسمى بقلق وتوتر الناس، قد تم حله، والوضع المتعلق بالبنزين والخبز عاد إلى حالته الطبيعية". إلا أنه يتوقع تفاقم الوضع الاقتصادي إذا استمرت هذه الحرب، وإذا استهدفت إسرائيل البنى التحتية الاقتصادية، بما يتسبب في انقطاع الخدمات العامة كالكهرباء والغاز والماء.
ورغم التلاحم الوطني الذي تشكّل في إيران لصد العدوان، غير أن تقييد الإنترنت وقطعه بحجج استخدامه من قبل إسرائيل لتنفيذ هجماتها بالمسيّرات، أثار حالة استياء وغضب بين الشارع الإيراني. ويقول خديو إن الإنترنت، في هذه الأيام الصعبة، أداة ووسيلة لتواصل الناس مع أحبائهم في خارج البلاد وداخلها، مشيراً إلى أنه في الوقت نفسه، وسيلة إعلامية للحصول على الأخبار. فالناس "يتعطشون للأخبار السريعة في هذه الأوضاع"، مؤكداً أن "قطع الإنترنت هذا لن يحقق النتيجة المرجوة من قبل القائمين على هذا الحجب، بل سيؤدي إلى خلق حالة من الاستياء في أوساط الناس".
العدوان يعزز معاداة إسرائيل
يلفت خديو إلى أن إسرائيل ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو "كانا يسعيان إلى استثمار حالة الغضب والاستياء في البلاد، نتيجة أزمات متراكمة، غير أن العدوان الإسرائيلي جاء بنتيجة عكسية"، إذ تعزز "النظرة المنتقدة والمعادية لإسرائيل" في البلاد. ويضيف أن المواطنين حين يشاهدون خسارة الأصول الاستراتيجية، والبنى التحتية، والأرصدة الاجتماعية والاقتصادية، وحتى استباحة سماء البلاد "فهذا بطبيعة الحال يؤثر على نظرتهم تجاه إسرائيل، ويعزز معاداتها بين الإيرانيين". وبرأيه فإن ذلك يحصل فيما تختلف نظرة الشعب الإيراني تجاه إسرائيل إلى حد ما عن نظرة بقية المجتمعات العربية والمسلمة في المنطقة، مشيراً إلى أن "الثورة الإسلامية الإيرانية، أو بتعبير أدق هوية الثورة، ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالقضية الفلسطينية، والسياسة المناهضة لإسرائيل". وعليه فإن "المشاكل الاقتصادية المعقدة والعديدة التي حدثت في السنوات الأخيرة، أدت إلى أن يُلقى جزء من اللوم بين أوساط شعبية نحو السياسة الخارجية". وفيما سعت إسرائيل، بحسب خديو، إلى توظيف هذه التباينات داخل إيران، إلا أن "العدوان عليها، واستهداف أصولها الاستراتيجية، ومشاهد القتل، ارتد على إسرائيل سلباً، وأطاح إلى حد كبير ما كانت تستثمر فيه".
واستثمرت تل أبيب، خلال السنوات الماضية، الظروف الداخلية في إيران، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، لتشكيل مجموعات عميلة لها، تعكسه شن الحرب من داخل إيران، لا فقط من خارجها، إلى جانب الهجمات الجوية المباشرة من الخارج، عبر عناصر متعاونة مع جهاز الاستخبارات والعمليات الخاصة الإسرائيلي (الموساد)، وهو ما أقرّت به السلطات الإيرانية. فقد قال رئيس البرلمان الإيراني، محمد باقر قاليباف، الاثنين الماضي، إن "جزءاً كبيراً من ضربات العدو ليس هجوماً عسكرياً، بل يتم عبر عناصر عميلة من الداخل".
رضا نصري: رد فعل الشعب الإيراني هذا كان مفاجئاً للسياسيين والمحللين الأميركيين
من جهته، يرى المحلل الإيراني، رضا نصري، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "وسائل الإعلام، ومراكز الفكر الموالية لإسرائيل في الولايات المتحدة، روّجت خلال السنوات الأخيرة، رواية مفادها بأن الإيرانيين لن يقفوا إلى جانب حكومتهم في حال وقوع هجوم عسكري خارجي". ويضيف أنها "التحليلات الخاطئة نفسها التي طرحوها خلال الهجوم الأميركي على العراق عام 2003"، لافتاً إلى أنه منذ اليوم الأول للهجمات الإسرائيلية على إيران، "شهدنا ربما تضامناً وتماسكاً مذهلين في إيران". وبرأي نصري فإن حالة الغضب من العدوان دفعت مواطنين إلى تنظيم "تظاهرات حتى في خضم الهجمات الإسرائيلية بالصواريخ والمسيّرات"، معبراً عن قناعته بأن "رد فعل الشعب الإيراني هذا كان مفاجئاً للسياسيين والمحللين الأميركيين، الذين كانوا يحملون انطباعاً مختلفاً لسنوات". وعن موقف الإيرانيين في الخارج، يقول نصري، الذي عاش معظم حياته في الغرب، إن "معظمهم غاضبون بشدة من الهجوم الإسرائيلي على إيران، لكن هناك أقلية صغيرة من المعارضة، تمتلك المال والإعلام، تُصوّر نفسها في المحافل السياسية والإعلامية الغربية على أنها ممثلة الأغلبية، وهذا غير صحيح". ويشدد على أن "هذه الأقلية الصاخبة تدافع عن الهجوم العسكري، وتتظاهر بأنها تتحدث باسم الشعب الإيراني".
