العودة إلى الشمال... مشقة رحلة الغزيين يمحوها الرجوع للديار

منذ ٢ شهور ٣٣

رحلة شاقّة اضطر الفلسطينيون العائدون من جنوب قطاع غزة إلى شماله إلى تحمّلها، بعدما غلبهم الشوق إلى أهلهم وأرضهم وديارهم. الشوق وحده هو ما هوّن عليهم صعوبة السير مسافة طويلة يرافقها الجوع والعطش

رسم مئات آلاف الفلسطينيين لوحةً تاريخيةً بعودتهم من جنوب قطاع غزة إلى شماله، بدءاً من يوم الأحد الماضي، سيراً على الأقدام مسافة تسعة كيلومترات، حاملين أطفالهم وخيمهم وملابسهم وحاجياتهم على ظهورهم. بدأت رحلة العودة المرهقة بعدما أنزلتهم الحافلات والمركبات والعربات عند تبة النويري غرب مخيم النصيرات وسط القطاع، ليتابعوا إلى محور نتساريم، علماً أن الاحتلال كان يمنع أي شخص قبل يوم الأحد من اجتياز التبة. هؤلاء شكّلوا مشهداً مهيباً على امتداد شارع الرشيد الساحلي.
كانت رحلة العودة شاقة، وقد نفدت زجاجات المياه التي حملوها معهم ليعانوا من العطش الشديد خلال المتبقي من رحلة العودة. وزاد مشقتهم حمل أطفالهم وجر بعض الحقائب والأكياس التي احتوت على ملابس ومقتنيات ضرورية. ولم يكن السير سهلاً على الطريق التي جرفتها آليات الاحتلال، فكانوا يصعدون تلالاً ثم ينزلون إلى حفر، فيما تغرق أقدامهم في الوحل والطين. الطريق مليئة بالتعرجات والحفر وبرك المياه وسواتر لها ممرات ضيقة وحجارة، ما زاد من صعوبة نقل الأشخاص الذين كانوا يجلسون على كراسي متحركة.
على تبة النويري، كان هاني الزعانين (56 عاماً) يسير بسرعة حاملاً حقيبة واحدة. لم يصطحب أطفاله وزوجته، إذ أراد العودة إلى منزله في بلدة بيت حانون شمال القطاع وترتيبه قبل مجيئهم. يقول لـ "العربي الجديد": "ربما ما ينتظرني في بيت حانون أصعب من الطريق، لكننا نعيش فرحة غامرة، وخصوصاً أن الحرب كانت صعبة، وكنا نستبعد احتمال العودة. الناس سعداء ومستعدون لتحمّل مشقّة الطريق".

إنهاك شديد

بعد اجتياز مسافة ثلاثة كيلومترات، بدا الإنهاك واضحاً على معظم العائدين، وخصوصاً كبار السن. أحد الشبان كان يحمل والده المسن وقد سار به مسافة طويلة، فيما كان آخر يحمل كرسياً بلاستيكياً تستريح عليه والدته كل عشرة أمتار. عائد آخر كان يدفع والده الجالس على كرسي متحرك حاملاً حقائب عدة على ظهره في وقت واحد. 
كان البعض يحمل أطفاله وحقائبه، وقد تكسّرت عجلات عرباتهم الصغيرة (المصنوعة من الخشب)، وأصبحوا يجرّونها من دون عجلات. 

جلست منوّر مصبح على الأرض لتستريح من مشقة السير، هي التي تجر مع بناتها خمس حقائب سفر. تقول لـ"العربي الجديد": "خرجنا منذ ساعات الفجر من أماكن نزوحنا جنوبي القطاع، وواجهنا عقبات كثيرة ومشقة من أجل الوصول إلى بيوتنا في يوم تاريخي لكل فلسطيني يعشق أرضه ودياره التي رحل عنها قسراً. وها نحن عائدون رغم طول المسير إلى أرضنا التي لن نحيد عنها. ستبقى الأرض لأهلها مهما فعل المحتل بنا". تتابع: "رغم التعب، إلا أن مئات الآلاف أثبتوا صمودهم، وأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة. هي رسالة للعالم وكل الضمائر الحية بأننا نريد حياة كريمة مثل كل شعوب العالم. كما أن أطفالنا بحاجة لأن يحيوا حياة كريمة، رغم كل ما حصل لنا". 
وبعد اجتياز مسافة ستة كيلومترات، يشتد الإنهاك إلى درجة سقوط عدد من النساء وكبار السن. بعض العائلات كانت تستريح على جانبي الطريق كل 200 متر تقريباً قبل أن تواصل السير. لم تكن كريمة عبد العال تستطيع إخفاء دموعها جراء التعب الشديد. حاولت عبثاً الاتصال بأحد أقاربها ليرسل لها سيارة أو عربة تنقلها، وهي بين الجموع الغفيرة. خارت قواها ولم تعد قادرة على متابعة السير مع بناتها. بكت من شدة الوجع والتعب وهي تجلس على أحد الأرصفة لتستريح. بعدها تقدمت نحو عشرين متراً واستراحت. كانت شبكة الاتصالات الخلوية شبه منعدمة في تلك المنطقة ولم يستطع الكثير من العائدين إجراء أي مكالمة هاتفية. 

وعن الرحلة الشاقة، تقول عبد العال لـ "العربي الجديد": "قطعنا مسافة طويلة، ونحن كنساء وأطفال لم نعتد السير مسافة كهذه. لم نكن ندري أننا سنجد جموعاً غفيرة هكذا، واعتقدنا أن السير لن يكون بهذه الصعوبة. لكن كان علينا اجتياز الحفر والسير على الحجارة. الحرب كلها في كفة وهذا اليوم في كفة أخرى. لن ننساه طيلة حياتنا".
نفدت زجاجة مياه كانت قد أحضرتها عبد العال معها، ولم تستطع إيجاد مياه تروي بها عطشها. جالت بزجاجاتها الفارغة على العائلات من حولها، لكن المياه كانت قد نفدت من الجميع. 
كانت تتوق لمعانقة ابنتها بعد غياب دام خمسة عشر شهراً والاطمئنان على منزلها، إلا أن مشقة الطريق أنستها هذه الفرحة، وقد غلبها العطش والجوع والتعب، حتى باتت عاجزة عن تحريك أطرافها. 
بدا الكيلومتر الأخير الأطول على الإطلاق. كان التعب بادياً على وجوه الجميع، ولم يعد الكثيرون قادرين على متابعة السير رغم اقترابهم من الوصول. وما زاد الأمر صعوبة حجم الدمار الكبير على الشريط الساحلي لمدينة غزة، والاضطرار إلى اجتياز حفر عميقة، من خلال وضع قواطع خشبية كبيرة والسير فوقها كأنها جسر. وهذا لم يكن سهلاً بالنسبة للأطفال وكبار السن. 

المحطة الأخيرة

إنها نهاية الرحلة ومحطة العناق. الكثير من أبناء غزة كانوا ينتظرون عائلاتهم القادمة من جنوب القطاع بعدما فرقهم حاجز نتساريم الذي قسم القطاع إلى شطرين. كان حسام النجار ينتظر وصول أبنائه، من بين آخرين. عندما رأته ابنته (16 عاماً) عن بعد عشرين متراً، ركضت نحوه وتعانقا طويلاً، ثم جلست ترتاح بعدما أنهكها السير. راح الوالد ينتظر بقية أولاده الذين تفرقوا خلال الطريق، يحاول البحث عنهم بين الجموع الغفيرة، ليصلوا ويعانقهم جميعاً.  
يقول النجار لـ "العربي الجديد": "هذه لحظات صعبة، انتظرتها طويلاً بعدما فرقتنا الحرب. لم نستطع التواصل إلا من خلال الهواتف، وها أنا الآن ألتقي بهم بعد غياب طويل. كان صعباً بالنسبة إلي رؤيتهم وقد أنهكهم التعب. لكننا جميعاً انتظرنا هذه اللحظات بفارغ الصبر".
النجار واحد من بين آلاف المنتظرين على الجانب الآخر لاستقبال ذويهم العائدين، وقد دام انتظاره عشر ساعات. وكانت لافتة "غزة ترحب بكم" على مقربة من دوار الـ 17 في مدينة غزة، حيث الحافلات والسيارات والعربات لنقل الناس، تستقبل العائدين. وشهد المكان ازدحاماً شديداً، ولم تستطع تلك الوسائل نقل الجميع، ليضطروا إلى متابعة السير للوصول إلى عمق المدينة. 

النازحون العائدون الذين قابلتهم "العربي الجديد" قالوا إن ما هوّن عليهم مشقة السير مسافة طويلة هو شوقهم الكبير للعودة إلى غزة ومعانقة الأهل والأحباب ورؤية البيوت حتى لو كانت ركاماً. وتحقق حلمهم بعدما كانوا يرونه بعيداً في ظل مخططات الاحتلال الإسرائيلي وسعيه إلى تهجير الناس. كانوا يخشون أن يكونوا جيل النكبة الثاني.
وتقول عبير لـ "العربي الجديد": "الطريق الذي سلكناه كان مدمراً ومليئاً بالحفر الكبيرة. كان من الصعب على النساء والأطفال، وخصوصاً من يحمل حقائب وأغراضاً منهم، المتابعة. أحياناً، كنّا نجر الحقائب لصعوبة حملها، إلا أن ذلك لم يكن سهلاً أيضاً. وكان الازدحام الشديد يصعب السير. وعندما وصلنا إلى منطقة تجمع السيارات، لم نوفق في إيجاد وسيلة نقل، والأسعار مرتفعة. وكانت في الشاحنة الواحدة أعداد كبيرة. لكن ما هوّن علينا أن بيتنا لم يدمر". 
وكان مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا"،قد أعلن عن عودة أكثر من 376 ألف فلسطيني إلى شمال قطاع غزة منذ فتح محور نتساريم للعبور. وأفاد بأن النازحين الفلسطينيين يواصلون العودة إلى شمال القطاع عبر محور نتساريم بعد السماح بالعبور من خلاله بدءاً من 27 يناير/ كانون الثاني الجاري، بموجب اتفاق وقف إطلاق النار.
ويتواصل تدفق النازحين الفلسطينيين للعودة إلى غزة والشمال رغم حجم الدمار الكبير الذي طاولهما والذي قدّره المكتب الإعلامي الحكومي بأكثر من 90%.

قراءة المقال بالكامل