ربما هي مصادفة أن يبث الموسم الثاني من مسلسل "لعبة الحبار" (Squid Game) على منصة نتفليكس، ويليه بقليل برنامج المسابقات "بيست غيمز" (Beast Games) على منصة أمازون برايم. لكنها مصادفة تدعو إلى التأمل، وخصوصاً أننا أمام نموذجين شديدي الاختلاف؛ فالأول لعبة قد تبلغ الموت من أجل المال ضمن سياق متخيل، والثاني برنامج ألعاب وثائقي يتنافس فيه نحو ألف مشترك من أجل نيل خمسة ملايين دولار.
قراءة هاتين الظاهرتين مثيرة للاهتمام. لن نخوض في الفضائح المحيطة بالاثنين، خصوصاً تلك التي لاحقت مستر بيست في أثناء تصوير البرنامج، التي وصلت إلى حد اتهامه بتعذيب المتسابقين، بل نركز كيف تحول اللعب بشكله المتخيّل والحقيقي إلى أسلوب للترفيه، "يتنافس" فيه "المتسابقون"، من أجل حياة أفضل.
لعلّ كلا البرنامجين يرسّخ المفهوم الرأسمالي، القائم على وعد بحياة أفضل، لأن المستهلك/المتسابق لا يمتلك المهارة الكافية أو لا يحالفه الحظ، يُستبعد. أحياناً، من دون أن يربح أي شيء، وهذا بالضبط هو الوعد الذي يراهن عليه مستر بيست؛ فإلى جانب غواية رؤية النقود بأم العين، تلعب المهارة الجسدية والقدرة على القيام بمهمات بسيطة، دوراً في كسب المال، وكأننا أمام شكل ساخر من العمل في المصنع. مهارة أو مهمة واحدة، تزيد من احتمالات الربح بالجائزة الكبرى، وقد تكون مجرّد مهارة لا تتعدى ترتيب بعض المكعبات.
في الوقت نفسه، إن صيغة المنافسة تعني تصفية الآخرين، الذين يتحوّلون إلى خصوم، إذ لا يمكن للجميع أن يربح. هنا، لا بد من شخص واحد فقط يصل إلى النهاية، بعد أن يدوس (وقد يقتل) كل منافسيه. هذه بالضبط الروح الاستهلاكيّة، التي تحولت إلى استعراض. هنا، ما من استعراض للمهارة، بل للقدرة على النجاة وتحمّل العقبات، أمام عيون الملايين من المشاهدين. بصورة أدق، إن المشتركين في منصتي نتفليكس وأمازون برايم، أي المستهلكين الآخرين الذين ترفّه هاتان الشركتان عنهم، هم المستهدفون.
لا مهارة محددة على أحدهم إتقانها كي ينجح في المسابقتين. الأمر لا يحتاج إلى أكثر من الصبر أو عدم الثقة بالآخرين. بصورة ما، نحن أمام "عمال" في أدنى السلم الوظيفي، أولئك الذين لا مهارة محددة يمتلكونها. في كلتا المسابقتين، نطالع "أحلام" المتسابقين التي تتمحور حول التوقف عن العمل. بهذا، يشير البرنامجان إلى أن العمل مجرّد داء، أو فرض لا دواء له سوى المال، أو كسب سريع يتجلى في المسابقة شديدة الفردانية التي يمكن لأحدهم أن يضحي فيها بكل شركائه، وهو الشرط الذي يجري التفاوض عليه بين أعضاء الفريق الواحد، حتى لحظة النهاية، أي حين يُقرَّر فائز واحد.
لم تنته حلقات برنامج Beast Games بعد، وما زال بعض المتابعين ينتظرون الفائز، لكننا أمام استعراض للرأسمالية التي يربح فيها الجميع، عدا الـ999 متسابقاً الذين تخلص منهم المتسابقون الآخرون. صحيح أن هناك جوائز ترضية إن صحت التسمية، لكن في النهاية، الكاسب شخص واحد فقط، ليختفي الباقون ويعودوا إلى حياتهم اليوميّة. وهنا تكمن المفارقة في هذا النوع من المسابقات، فلا يتكسب المشاركون أي مهارات يمكن استخدامها خارج مساحة اللعب، بل ولا تمرينات يمكن خوضها للاستعداد للمسابقة. بمجرد أن يُستبعد أحدهم، حتى يعود إلى رتابة الحياة اليومية، والكد والكدح لدفع الفواتير والأقساط. لا شيء سوى بضع ريلات (Reels) أو ميمات (Memes) سيظهر فيها على وسائل التواصل الاجتماعي، ثم سيختفي في دوامة الإنترنت.
على اختلاف البرنامج والمسلسل، وشهرة كل منهما، وطبيعة الألعاب، والأهم أن واحداً منهما متخيلٌ والآخر واقعي، لا يمكن تلمس أي نوع من اليأس لدى المتسابقين. الرغبة في الفوز قادرة على محو كل المشاعر الإنسانية، وتحييدها في سبيل الربح. هذا القادر على تغيير حياة من يناله. رغبة ككل رغبة رأسمالية؛ كلما ازدادت، ترافقت مع نقص يهدد الطبيعة الإنسانيّة أمام الفرد، الواحد، الرابح.
