بين الذاتي البحت (علاقة بأهلٍ وأصدقاء/صديقات) والمهنيّ (ستاند أب كوميدي) والنضاليّ (دفاعاً عن عيشٍ مشتركٍ وحقوق، ورفضاً لدولةٍ تمارس الفصل العنصري لتثبيت احتلالها أرضاً وتاريخاً وشعباً)، تجهد الفُكاهيّة الإسرائيلية نوعَم شوستر إلياسي (1987) في تبيان وقائع العيش في بلدٍ مُحتلّ، ظنّاً منها أنّ "العيش المشترك" ممكنٌ، قبل أنْ تقول "خلص"، باللغة العربية السابقة للمفردة الإنكليزية Enough.
هذا غير ناتجٍ من تبدّل لها في قناعات والتزامات وحراكٍ ميداني وفني، بل لأنّ الحاصل في فلسطين/إسرائيل قاسٍ وبغيضٍ ومُتعِب. تقول "خلص"، بعد أعوامٍ من نضالٍ من أجل ذاك العيش المشترك، الذي تختاره عنواناً لعرضٍ لها، تُضيف إليه شتيمةً (Coexistence, My Ass)، بنبرة ساخرة وغاضبة، وبنَفَسٍ منبثقٍ من خيبة وقهر، وبصوتٍ كأنّه ينتقل من "صراخ في برية" إلى "قرفٍ في (أو ربما من) بيئة".
هذا ترويه شوستر إلياسي، في وثائقيّ طويل (2025، 95 دقيقة) للكندية أمبر فارس بالعنوان نفسه للعرض الفكاهيّ، بلغةٍ تمزج السخرية بمرارة مبطّنة (ومُعلنة أحياناً قليلة، وإنْ مواربة وهذا أقسى)، والكوميديا بألم الواقع، ومعنى التزام حقٍّ والدفاع عنه بابتكار ضحكٍ معطوفٍ على "استغلال" تفاصيل شخصية/عائلية لصُنع متعةٍ، غير خاليةٍ من نقدٍ وتعريةٍ. فيلم فارس، المُشارك في المسابقة الدولية للدورة الـ27 (6 ـ 16 مارس/آذار 2025) لـ"مهرجان سالونيك الدولي للأفلام الوثائقية"، يروي فصولاً من السيرتين الحياتية والمهنية للفُكاهيّة الإسرائيلية، بتصوير (فيليب بِلْعايش وأميت خاخْموف وفارس نفسها) يلتقط معالم حياة وعلاقات وانفعالات، ويصطدم بوحشية الردّ الإسرائيلي على "طوفان الأقصى" (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023)، التي (الوحشية) ستكون فاصلاً جذرياً في سيرة الشابّة، ومنعطفاً حادّاً في تعاطيها مع وقائع وتفاصيل.
أيُمكن مقارنة مفردة "خلص"، لنوعَم شوستر إلياسي، بتعبير "نحن نخسر دائماً"، الذي تقوله المحامية الإسرائيلية ليئا تسيميل، المدافعة عن معتقلين ومعتقلات فلسطينيين، في "محامية" (2019) لراشيل ليا جونز (منتجة فيلم أمبر فارس) وبلعايش (العربي الجديد، 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2019)؟ استعادة تعبير تسيميل، بعد صرخة "خلص"، منبثقةٌ من تشابهٍ، ضمني على الأقل، في المعنى العميق لحاصلٍ مع المرأتين، اللتين، رغم اختلاف العمر بينهما (المحامية مولودة عام 1945)، تنشطان في الدفاع عن حقوق طبيعية وشرعية لأناسٍ يجهدون للبقاء في بلدهم المحتلّ (تقول المحامية أيضاً إنّ الإسرائيليين "لا يملكون أيّ شرعية تخوّلهم أنْ يقولوا للفلسطينيين كيف يقودون مقاومتهم")، لكنهما تُصابان بخيبةٍ، ستكون مفردة "خلص" وتعبير "نحن نخسر دائماً" (المقصود بـ"نحن" أولئك واللواتي يقفون إلى جانب حقّ/فلسطين ضد باطل/إسرائيل) أصدق إعلانٍ ذاتي وأخلاقي عن تلك الخيبة.
قول "خلص" غير آتٍ من لا شيء. هناك سياق متكامل من أحداثٍ وكلامٍ ومواقف وحالاتٍ، تعيشها نوعَم شوستر إلياسي في أوقاتٍ متلاحقة، توقعها في لحظة ألمٍ وقهر. إحدى تلك الحالات متمثّلة بتظاهرةٍ إسرائيلية ضد بنيامين نتنياهو، المتّهم بقضايا فساد قبل شنّه حرب الإبادة على غزة، ولاحقاً على الضفة الغربية ولبنان، يبرز فيها عمق الهوّة في تفكير إسرائيلي بين خوف/قلق على ديمقراطية النظام السياسي والحياتي في "بلده"، وانعدام أي حسّ بحق فلسطيني في أرضٍ وبلدٍ، وفي الاستفادة من تلك الديمقراطية. كلام كثير يُقال بين إسرائيليين وشوستر إلياسي يصعب اختزاله، لشدّة ما فيه من انفصامٍ إسرائيلي بين رفض فساد رئيس الحكومة والتغاضي المطلق عن الحق الفلسطيني.
أساساً، يمتلئ Coexistence, My Ass ـ الفائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة بحرية التعبير، في عرضه الدولي الأول في الدورة الـ41 (22 يناير/كانون الثاني ـ 2 فبراير/شباط 2025) لـ"مهرجان ساندانس السينمائي" ـ بأحداثٍ وكلامٍ ومواقف وحالات، اختزالها صعبٌ، فالاختزال يُفقدها معانيها وانفعالاتها وحرارتها وحيويتها، وقهرها وآلامها. النكتة منطلقٌ لإضحاك أناسٍ يرتادون المسارح لمشاهدة عروض "ستاند آب" كوميدي، ولا بأس بكلامٍ ساخر ومُضحك في السياسة والاجتماع والاستخبارات الإسرائيلية. نوعَم شوستر إلياسي مشهورة في هذا المجال، وسخريتها غير متردّدة عن كشف مسائل حسّاسة في فلسطين/إسرائيل، وغير مترفّعةٍ عن تحويل بعض العائلي إلى مادة لإثارة ضحكٍ.
"إنّها ممثلة كوميدية، يجدها إسرائيليون عديدون صعبة الهضم. تنشأ في مجتمع "واحة السلام ـ نيفي شالوم" ثنائي القوميات، وتتحدّث العبرية والعربية كلغتها الأم"، تكتب جيلي أزيكوفاخ في "هآرتس" (23 يونيو/حزيران 2021)، مُضيفة: "على نقيض كوميديين آخرين، لم تتردّد قط في التعبير عن آرائها السياسية، التي يعتبرها كثيرون من أقصى اليسار، بصوت عال وواضح". أمّا "واحة السلام"، فقرية قريبة من القدس، مؤسَّسة عام 1969 بفضل جهد الأب الدومينيكاني برونو هوسّار، يهودي الأصل المولود في القاهرة (1911 ـ 1969). هذه الواحة أساس الحكاية كلّها، إذْ تنشأ نوعَم فيها (والداها يقطنان فيها مباشرة بعد التوقيع على اتفاقات أوسلو عام 1993، مع "حلم" عيش مشترك بين فلسطينيين وإسرائيليين يهود، كما تُشدّد الوالدة على كلمة "حلم")، فتكتشف معنى عيشٍ مشترك بينهم (في عروض لها، تستعيد ذكريات تلك المرحلة بسخرية مُحبَّبة وصائبة، سياسياً واجتماعياً).
تمسّك شوستر بقول سياسي، متأتٍّ من حراكها المدني، يتّضح أكثر في لقطات تجمعها مع معارف وعاملين/عاملات في المجال نفسه، إذْ ترفض بشدّة تغييب مواقفها السياسية من عروضها الكوميدية، كما يحاول هؤلاء إقناعها به. لكنّ محطات عدّة في المحيط بها يضعها أمام مرآة نفسها، قبل استعادة نفسها من قلق وحيرة ووجع.
في سرد حكاية الفُكاهيّة، هناك سلاسة يصنعها توليف (رباب حاج يحيى، المشاركة في كتابة الفيلم مع راشيل ليا جونز) يجمع بين سرعة الحركة (تقطيع سريع، أحياناً) وهدوء لقطات طويلة، وتضمين السياق مقتطفات توثيقية سابقة (لقاءات تلفزيونية، تصوير فيديو لأغنية "دبي دبي"، المنجزة في يناير/كانون الثاني 2022، والتي تسخر فيها من مطبّعي "اتفاقيات أبراهام"، تظاهرات أسبوعية ضد نتنياهو، إلخ)، لصنع مسارٍ بصري جماليّ، يرتكز على حيوية الفُكاهيّة وشفافيتها وصدقها وبساطتها وهضامتها، وقسوة محيطٍ بها يدفعها أحياناً إلى حوار، وإنْ كان مُقتضباً، مع والديها (والدها متحدّر من عائلة يهودية رومانية، ينجو أفرادٌ فيها من المحرقة النازية، ووالدتها يهودية إيرانية). الذاتي/العائلي غير محصورٍ بخصوصيات حميمية، فالمحيط بها مرتبك وضاغط، ولوالديها اختبار مواجهة واتّخاذ قرارات غير سهلة.
Coexistence, My Ass يكشف مسائل كثيرة في سيرة شابّة فكاهيّة، تكاد تسخر من كلّ شيءٍ، قبل خاتمةٍ ثقيلة بالأسئلة، وفي سيرة بلدٍ محتلّ، وفي سيرة احتلال. فيلمٌ يستدعي نقاشاً أكثر، يتناول مضمونه، فالسينما فيه مشغولة بحرفية وثائقية، تُتيح تواصلاً سريعاً معه.
