الكتابة بلا رقيب

منذ ٢ شهور ٣٧

قد تظهر فكرة غياب الرقيب التي أحدثها سقوط نظام الأسد مغرية وجذّابة. إلّا أنّها ليست جديدة تماماً في الكتابة السورية. مع أنّ الرقيب الذي فرضه نظام الأسد سقط مع أجهزته الأمنية، وصدّر سقوطه تساؤلاً عن شكل الكتابة السورية القادمة، لكن يظهر كما لو أنّ سقوط الرقيب يعني فئة من الكتّاب، وهم تعيسو الحظّ الذين استمرّوا بالكتابة والعيش في ظلّ نظام الأسد، من غير أن يضحّوا بشجاعة القول والتعبير ورصد تغيّرات الواقع السوري في عهد الدكتاتورية. وهذا الاحتكار بنزع الرقيب عن الداخل فقط ليس دقيقاً وغير نزيه.

ينبغي الاعتراف الآن - والنظام سقط - أنّ أحد الشروخ الكبيرة التي صنعها في الثقافة وبين البشر، سوريو الداخل والخارج. الحديث الذي تجنّبتُ الخوض فيه قبل السقوط. لكن يرصد المتابع كتابتين: إحداهما اهتمّت بالتحايل على الرقيب مع صدق المقولة، وأُخرى تحرّرت منه. المقال ليس مفاضلة بينهما. لكن معظم السردية السورية تراوح بين هاتين القوّتين: وجود الرقيب، أو غيابه.

مع ذلك، يمكن نقاشُ الكتابة السورية من زاوية حضور الرقيب. فالرقيب الذي كان موجوداً بالنسبة إلى من عاش في الداخل لم يمنع الكاتب من الالتصاق بالموضوع التصاقاً جعل الكتابة حتى عن شأن معقّد وشائك وصعب، مثل الحرب، مجرّد كتابة عن تفاصيل عاشها، من غير أن يضطرّ إلى افتعال المخيّلة التي قد ترفع نصّاً، وقد تقتل آخر. أمّا بالنسبة إلى من وجد نفسه، أو اضطرّ إلى أن يجد نفسه، خارج سلطة الرقيب، خارج بلده بسبب التهديد المباشر له، أو كان خروجاً كيفيّاً، فقد وجد نفسه على مسافة من موضوعه الأثير مع امتلاكه حريّة القول. إلّا أنّ وجود المسافة عن الموضوع، المكان، صنع اغتراباً عن موضوع الكتابة في الكثير من الحالات التي قرأناها، خصوصاً عندما تكون معادلات المكان متغيرة بالصورة التي كانت عليها في سورية. فالكثير من الكتابة التي تحرّرت من سلطة الرقيب، أصبحت تدور في بلدٍ افتراضي، موجود في ذهن الكاتب، وكأنّما سورية توقّفت عن النموّ بعد الأشهر الأُولى لعام 2011، وهذا ليس دقيقاً، وغير نزيه.

يدفع الرقيبُ الكاتب إلى البحث عن أساليب يطوّر بها نصّه

ثمّ أخال أنّ الرقيب لا يجب أن يلعب دوراً حاسماً في جودة نصّ أو إسفاف آخر. فجميع المقاربات تخضع لأصالة الكاتب نفسه. ولن يكون سقوط الرقيب شرطاً كافياً لبناء نصّ جّيد، بل أحياناً - وهذه مفارقة - قد يكون حضور الرقيب سبباً ليبحث الكاتب عن أساليب يُطوّر بها نصّه. وقد يكون تاريخ تطوّر الأدب في جزء منه ذلك النزاع الدائم الخفيّ بين الرقيب والكاتب. صراع يخوضه الكُتَّاب، لكن ليس محسوماً أن يُنتج نصّاً أفضل أو أسوأ، لأنّ الكتابة الجيدة لا تتأتّى من الموضوع ومن المقولة فقط، بل من المعالجة، من الأسلوب، من الطريقة، من الشكل.

مجدّداً، لا أكتب هذا المقال كي أسجّل نقطة لصالح أحد في المعسكرات السورية التي لا يعرف عنها الآخرون الكثير، بل كي أقول كلمات في هذا الشأن العصيّ الشاقّ الذي فُرض على الثقافة السورية عامّةً. وأظنّ في السياق عينه أنّ عموم الرواية السورية استمرّت روايةً شجاعة في شتى الظروف والأحوال، وقد كتبت بصورة مباشرة عن الديكتاتورية، وكتبت عن علاقات البشر في ظلّها.

ضمن البيئة المحطّمة التي صنعتها الشمولية أساساً، لم يكن بوسع المرء أن يترقب تطوّراً إيجابياً في ظرف شاذ قسّم أهل البيت بالفعل، إلى داخل وخارج. مع ذلك، من اهتمّ بالكتابة خلال السنوات الفائتة، لم يكن مهتمّاً إن كان يكتب تحت تهديد الاعتقال أو القتل، أو إن كان متغرّباً عن الموضوع، لأنّ الواقع انفجر بالجميع. والتمايز في النهاية كان محض أسلوبي بين كاتب وآخر، نراقبه، وجميعنا يأمل ألّا تتكرّر حكاية الرقابة السورية التي طوّقت العقل وحاصرت الضمير، وفصمت الكتّاب عن كتابتاهم، وأخيراً، فصمت الكتابة نفسها.


* روائي من سورية

قراءة المقال بالكامل