قد لا تبدو مدينة تشارلستون (العاصمة الأولى لكارولينا الجنوبية) معروفة كثيراً الآن، ولكنّها كانت كذلك في التاريخ الأميركي الحديث، وبالتحديد مع نشوء المستعمرات الأولى في الساحل الشرقي لأميركا الشمالية، واستقلال الولايات المتحدة في عام 1776، وصولاً إلى الحرب الأهلية 1861-1865، التي لا تزال آثارها في القلعة الحصينة على الجزيرة المجاورة لها.
تأسّست تشارلستون على اسم الملك البريطاني تشارلز الثاني (مدينة تشارلز) عام 1670، في جنوب الساحل الشرقي لأميركا، على مصب ثلاثة أنهار في المحيط الأطلسي. ويبدو أنَّ موقعها ساعدها على النمو السريع حتّى أصبحت بعد عشرين سنة خامس أكبر مدينة في أميركا الشمالية. وقد ارتبط هذا النمو بالتجارة الجديدة، أي تجارة "العبيد"، حيث استقبل ميناء المدينة ربع "العبيد" المُرسلين إلى أميركا الشمالية، وهو ما جعل تشارلستون أغنى مدينة في الولايات الأميركية الـ13 في القرن الثامن عشر.
وهكذا منذ 1708 أصبحت غالبية سكان المقاطعة من الأفارقة الذين جاؤوا أولاً للخدمة في البيوت، ثم جُلِبوا "عبيداً" للعمل في زراعة المحاصيل الجديدة التي جلبت الثروة لأصحاب المزارع الكبيرة، مثل الأرز وقصب السكر والقطن. ومع أن تجارة "العبيد" مُنعت في بداية القرن الثامن عشر في بريطانيا، إلا أنّها بقيت تعتمد على التهريب من الخارج، واستمرت في الداخل على مواليد العبيد الذين كانوا يُباعون أحياناً، إلى أن بادر الرئيس الأميركي، إبراهام لينكولن، في 1862 إلى "الإعلان الأولي لتحرير العبيد" في الولايات الجنوبية المتمرّدة، وهو ما أدى إلى اندلاع الحرب الأهلية (1861-1865).
ظلّ الأفارقة "العبيد" يُحشرون في أكواخ حتى بعد تحريرهم
ومع "تحرير العبيد" كانت هناك مرحلة طويلة من الكفاح في سبيل المساواة في جميع المجالات، استمرت قرناً من الزمن حتى 1964 حين أُقرت الحقوق المدنية.
مع التغييرات في السنوات الأخيرة التي عكست إعادة النظر في رموز عهد الاستعباد للأفارقة، افتُتح في تشارلستون عام 2023 "المتحف العالمي للأميركيّين الأفارقة" International African American Museum، الذي صُمم ليعيد تشكيل الصورة الحقيقية بالوسائل البصرية والسمعية والوثائق والمعطيات الدقيقة عن إسهام الأفارقة في التاريخ الأميركي في مختلف المجالات: في الزراعة والصناعة والسياسة والثقافة وحركات التحرر.
في هذا السياق كان التركيز على أنَّ هؤلاء الأفارقة الذين خُطفوا وبيعوا عبيداً للتجار الأوروبيّين كانوا في أغلبهم من أفريقيا الغربية التي كانت فيها دول وإمبراطوريات (مثل مالي وبلاد التكرور وغيرها) وخبرات في الزراعة والتجارة والثقافة العربية الإسلامية، أي إنهم لم يأتوا من "مناطق متوحّشة ومُقفرة"، لكي "يستحقوا" أن يكونوا عبيداً في العالم الجديد.
وبعبارة أخرى، تركز اللوحات التوضيحية على أن هؤلاء الأفارقة جاؤوا بخبرات متنوّعة، وحين وجدوا أنفسهم في مصيرهم الجديد لم يتردّدوا في الكشف عن خبراتهم التي أفادت كثيراً المحيط الجديد. ومن ذلك دور هؤلاء الأفارقة في نشر زراعة الأرز في كارولينا الجنوبية، التي كان مناخها وأرضها مناسبين لهذه الزراعة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه في العالم لدينا فصيلتان للأرز (الأرز الآسيوي الأبيض والأرز الأفريقي الغامق)، وأن الأرز الأفريقي كان معروفاً في بيئته الأصلية المناسبة (أفريقيا الغربية) منذ ثلاثة آلاف سنة. وهكذا يركز المتحف على هذا الإسهام للأفارقة في نشر زراعة الأرز في هذه المنطقة في جنوب الولايات المتحدة القريبة من منطقة الكاريبي، حيث توارثوا تلك الخبرة في المزارع الكبيرة للأرز التي ازدهرت وأصبحت تدر ذهباً على أصحاب المزارع، الذين تحولوا لاحقاً لزراعة الأرز الأبيض الذي أصبح مطلوباً أكثر في الولايات المتحدة.
وخارج المتحف الكبير المغلق، لدينا أكثر من متحف مفتوح كـ"مزرعة آل درايتون Draytons"، التي تأسّست في القرن الثامن عشر، وأصبحت متحفاً مفتوحاً للزوّار الذين يتعرّفون في جولة إلى هذه المزرعة التي تبلغ مساحتها أكثر من ستة آلاف فدان، وعلى "أكواخ العبيد" التي جرى الحفاظ عليها، كما كانت خلال عدة قرون.
ومع تقدير إسهام الأفارقة في نقل زراعة الأرز إلى جنوب شرق الولايات المتحدة وازدهارها هناك، فإن المرء يُصدم بالأكواخ التي كان يُحشر فيها "العبيد" عبر عدّة أجيال، حيث ظلّوا يعيشون فيها حتى بعد تحريرهم، لأنّهم لم يكونوا يعرفون مهنة أخرى ولم يكن التعليم متاحاً، بل إن آخر حفيد لهم بقي حتى تسعينيات القرن الماضي في تل الأكواخ.
وعند سؤال أحد القائمين على المتحف عن موقف أحفاد العائلة الذين ورثوا هذه الملكية الواسعة عن هذا الماضي الأسود، لا سيّما بعد إسهابه في الحديث عن الأحوال القاسية للعبيد في هذه المزرعة الكبيرة، سواء في ظروف العمل أو السكن، قال إن أحفاد العائلة يعرفون ذلك، ولا يمانعون في أن يعرف العالم كلّه بقصتهم. لذلك قاموا بتحويل المزرعة إلى منشأة مفتوحة تجذب السياح من داخل وخارج الولايات المتحدة، للتعرّف إلى تاريخ العبودية، كما أنهم خصصوا قسماً من المزرعة مشروعاً خيرياً.
وفي المتحف الذي يوضح أن هؤلاء "العبيد" الذين بيعوا في الولايات الأميركية جاؤوا من أفريقيا الغربية التي حكمتها عدّة إمبراطوريات، يوجد ركنٌ خاصٌّ يُعرّف بعالم مسلم هو عمر بن سعيد (حوالي 1770- 1864)، الذي أُسر في سن الخامسة والثلاثين وشُحن كعبد إلى تشارلستون في 1807 وبيع هناك.
كان الشيخ عمر بن سعيد من أسرة معروفة في إمبراطورية الفولاني، حيث درس على يد أخيه الشيخ محمد وغيره علوم الدين والدنيا، وأصبح بدوره عالماً إلى أن أُسر خلال غزو قبلي في 1807 وبيع إلى أحد تجار العبيد الذي شحنه مع غيره في سفينة توجهت إلى ميناء تشارلستون المذكور. وجرى بيعه هناك وعومل من قبل سيده معاملة قاسية، مما اضطره إلى الهرب من كارولينا الجنوبية إلى مدينة فايتفيل Fayeteville في كارولينا الشمالية، حيث اعتُقل وحُكم عليه بالسجن.
ركنٌ خاصٌّ يُعرّف بعالم مسلم هو الشيخ عمر بن سعيد
وبعد ذلك جرى بيعه إلى جيمس أوين J.Owen، الذي عامله بلطف بعد أن تعرّفت العائلة إليه، وقدّرت ما لديه من علم وأدب، ووفّرت له نسخة مترجمة من القرآن الكريم في اللغة الإنجليزية، ونسخة من الإنجيل مترجمة إلى اللغة العربية. ومع أنه شاع في 1820 أنّه اعتنق المسيحية، دون أن يتحرّر من عبوديته، إلّا أنّ ما دوّنه على الإنجيل بالعربية (التي لا يعرفها أحد) من تقدير للرسول محمد يُثبت أنّه ظل محافظاً على هويته المسلمة، كما أوضحت ذلك الأكاديمية بسيمة شاهين في دراستها "الشكل الأدبي والهوية الإسلامية في حياة عمر بن سعيد"، التي نشرت عام 2014 في كتاب "رحلات في سرديات العبيد".
بقي الشيخ عمر بن سعيد منكباً على الكتابة بالعربية، وترك عدّة مخطوطات، كان من أهمها سيرة حياته التي تكتسب أهمية كبيرة، لكونها أول سيرة حياة لـ"عبد" مسلم في الولايات المتحدة. وقد انتقلت هذه المخطوطة من يدٍ إلى أخرى إلى أن وصلت لمكتبة الكونغرس في واشنطن 2017، التي رمّمتها وأصبحت ضمن المجموعات المتاحة للعرض في شبكة المكتبة.
وقد بادرت المكتبة لاحقاً إلى تنظيم حلقة نقاشية عنه في 2019. وفي غضون ذلك قام الباحث علي الريس بترجمة هذه السيرة إلى الإنجليزية ونشر عنها دراسة نُشرت في كتاب عام 2011، مع عدة دراسات أخرى عن المسلمين الأوائل وعمر بن سعيد وتجارة العبيد تحت عنوان "عبد مسلم أميركي- حياة عمر بن سعيد". كان ما نُشر عنه مثيراً للاهتمام وملهماً للكاتبين ريانون غيدنس R. Giddens ومايكل إبلز M. Ables اللذين ألّفا مسرحية غنائية عنه حملت اسمه "عمر" Omar وعُرضت لأول مرة في 2022 في تشارلستون، أي في المدينة التي بيع فيها عبداً عام 1807، وطافت بعد ذلك ولا تزال في كثير من المدن الأميركية.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري
