"المحلّف رقم 2": العدالة بحسب كلينت إيستوود

منذ ٢ شهور ٤٠

هناك شيء لافت في رجلٍ يبلغ 94 عاماً، وينجز فيلماً عن الشعور بالذنب، والثقل الذي لا يُطاق للأسرار. كلينت إيستوود أراد أنْ يتحدّث عن العدالة، إنْ يكن "المحلّف رقم 2" آخر أفلامه. ليست العدالة التي أحبّ إحلالها بيديه أيام هاري القذر، بل نوع آخر: عدالة بمعاطف ومطارق و"سيادة القاضي حضرات المستشارين". عدالة مؤسّسية وبيروقراطية، وقابلة للخطأ تماماً.

"العدالة حقيقة متعيّنة؟ أما زلتِ تؤمنين بذلك؟". ساخراً، يسأل محامي الدفاع خصمه، نائبة المدّعي العام، لاستخدامها هذه العبارة التي قالها أستاذٌ جامعي سابق، جاعلاً إياها شعاراً لحملة ترشّحه لمنصب المدعي العام في ولاية جورجيا. العدالة والحقيقة والفعل ركائز سينما إيستوود، العائد في عمره إلى هذه المسائل ـ المفاهيم في أحدث أفلامه، الذي يضعها مُجدّداً على المحكّ كما فعل سابقاً في "سولي" (2016) و"ريتشارد جويل" (2019) مثلاً.

"المحلّف رقم 2" معروض في منصّات البثّ فقط، في تجاهلٍ من "شركة وارنر إخوان" لأعرق صانع أفلام هوليوودي لا يزال حيّاً، بعد عملها معه أكثر من نصف قرن. إنّه يحمل معضلة أخلاقية، إذْ تتناول أحداثه شابّاً متزوّجاً وربّ أسرة طيّباً، وزوجته توشك على الإنجاب، يُستدعى للانضمام إلى هيئة محلّفين، يتعيّن عليها تقرير براءة ـ إدانة رجل آخر في عمره نفسه، متّهم بضرب شريكته حتّى الموت، بعد مُشادة في حانة، ذات ليلةٍ مليئة بالكحول والعواصف. كلّ شيء في الملفّ يُدين المتّهم، لكنّ المحلّف رقم 2 (نيكولاس هولت) يكتشف فجأة، في منتصف المحاكمة، أنّه هو ربما قَتل الضحية من دون قصد، عندما دعس بسيارته شيئاً في تلك الليلة العاصفة، افترض لاحقاً أنّه غزال.

يُترك جاستن كَمْب (هولت)، بهيئته صهراً مثالياً، في ذاك المكان غير المُريح، الذي لا يريد أحدٌ أنْ يكون فيه: المكان الذي تتعارض فيه الأخلاق الشخصية مع الواجب المدني، حيث يلتقي الماضي والمستقبل في حاضرٍ لا يطاق. يُجلسه إيستوود على كرسي رقم 2 في هيئة المحلّفين، ويُسمِعه الشهادات، ويريه الصُّور والأدلة. كلّ شيءٍ يشير إلى الصديق العنيف. كلّ شيءٍ مثالي للغاية.

شخصية كَمْب من النوع الذي يحبّه إيستوود: رجلٌ عادي يجد نفسه في موقفٍ غير عادي، إذْ يتمّ اختياره مُحلّفاً في قضية قتل، يكون هو نفسه فيها الطرف المذنب. ماذا تفعل عندما تكتشف أنّ عليك الجلوس في الجانب الآخر؟ عندما يؤدّي سرّك إلى إرسال رجل بريء إلى السجن، لكنّه ينقذ حياتك؟ عندما تنتظرك زوجتك الحامل في المنزل، وتلعب دور القاضي، وأنت تعلم أنّك مسؤول عن وفاة شخصٍ؟

في غرفة المحلّفين، يريد 11 شخصاً إنهاء القضيّة بسرعة. لديهم حياة ووظائف وأسباب. ضابط شرطة سابق يعتقد أنّه يعرف. أمّ تفتقد أطفالها. مُدّعية عامة تريد أنْ تكون أكثر من مجرّد مدّعية عامة. دفاع مُتردّد. وكَمْب؟ إنّه يعرف.

 

 

نقطة بداية السيناريو (جوناثان أبرامز) تبدو وحدها نزويّة بعض الشيء، على أقلّ تقدير. لكنْ، مع مخرج خبير كإيستوود، لا يصبح السيناريو مُقنعاً فحسب، بل وسيلةً له للتفكير مُجدّداً في مخاوف سكنت أفلامه، خاصة أفلام الربع الأخير من القرن الـ20، بدءاً من "جريمة حقيقية" (1999)، وفيه يُكلّف صحافي يعاني تدهوراً مهنياً (يؤدّيه إيستوود نفسه) بتغطية محاكمة قاتل مُدان، لكنّه يعلم ببراءته قبل ساعات قليلة من تنفيذ حكم الإعدام، فيبذل المستحيل لإنقاذه.

لكنْ، هنا، لا يوجد بطل ولا بطل مضاد. "المحلّف رقم 2"، أو جاستن كَمْب، مُجرّد رجل محاصر في متاهته الخاصة: إذا ظلّ صامتاً، فسيتحمّل عبء هذا الظلم على ضميره بقية حياته؛ وإذا تحدّث، فسيدمّر مستقبله ومستقبل عائلته. "ربما تحصل على 30 عاماً في السجن"، يشرح محامٍ موثوق (كيفر ساذرلاند)، على دراية بقانون العدالة الصارم في ولاية جنوبية مُحافظة كجورجيا.

على هذا المفترق الأخلاقي، يبني إيستوود تشويقاً رصيناً لكنّه قويّ، مع تلك الشفافية السردية التي جعلت عمله الوريث العظيم للسينما الكلاسيكية في هوليوود. عرضه نظيف وجليّ وبلّوري. واضحٌ أنّ دراما سيناريو أبرامز تستقي من فيلمين كلاسيكيين في السينما القضائية أنجزهما سيدني لوميت: باكورته الإخراجية "12 رجلاً غاضباً" (1957)، وخاتمتها "الحُكم" (1982)، أحداثهما تجري بالكامل تقريباً خلف أبواب مغلقة في قاعة محكمة، كحال "المحلّف رقم 2". لكنْ ـ على عكس فيلمي لوميت، المُعتَمدَين على كاريزما بطليهما، هنري فوندا وبول نيومان على التوالي ـ يختار إيستوود عمداً مُمثّلاً غير مُميّز تقريباً كهولت لتأدية شخصية عادية يصعب تمييزها.

إذا كان هناك بطل في "المحلّف رقم 2"، فليس كَمْب بالضبط، بل بطلة غير متوقّعة: المدّعية العامّة فيث كيلبرو (توني كوليت، الممتازة)، التي تُعدّ صورة طبق الأصل منه إلى حدّ ما. لا تضع حياتها المهنية على المحك فحسب، بل هيبتها المهنية أيضاً. كما يتعيّن عليها اتّخاذ قرار مصيري في حياتها، أقلّه إذا أرادت البقاء وفيّة للمبدأ القائل إنّ "العدالة حقيقة متعيّنة". تريد كيلبرو استخدام هذه القضية منصّة سياسية (يحتاج الجمهور، مستهلكو الميديا، دائماً إلى شخص لإلقاء اللوم عليه. شيء يمنحهم صورة مرضية عن أنفسهم). إنّها شخصية تتحوّل بين الأيدي الخطأ إلى شريرة أحادية البُعد. لكنْ إيستوود وكوليت يحوّلانها شيئاً أعقد: شخصٌ حقيقي، ذو طموحات حقيقية ومعضلات أخلاقية حقيقية.

في فيلمه هذا، يُحرِّض إيستوود على التفكير (كما فعل دائماً منذ أنْ كان شاباً نحيفاً، يرتدي معطفاً طويلاً، إلى الآن، فهو لا يزال قادراً على إنجاز فيلم مهمّ): العدالة ربما ليست كما نتصوّرها، وربما لا يكون الإنصاف بالبساطة التي نعتقدها في قول الحقيقة. ربما نصبح جميعاً في مرحلة ما مُحلّفين في قضايانا الخاصة.

قراءة المقال بالكامل