فجأة، في صبيحة الثامن من ديسمبر/كانون الثاني 2024، وجد التشكيليون السوريون أنفسهم ينتقلون من نظام قمعي يتربص لهم بالمرصاد ويفتش في ضربات ريشهم وأزاميلهم، وحتى في نياتهم، عن معنى سياسي معارض، إلى نظام سياسي جديد لم تتبلور فيه أشكال الرقابة بعد. لكنهم توجّسوا فور مجيئه من رقابة بلا محدّدات واضحة، وهي تحيلهم في الوقت نفسه إلى رقابة اجتماعية محمولة على تأويلات دينية لا يربطها ودّ مع الفنون التشكيلية بشكل عام.
وعزّز من مخاوفهم تناقل بعض التشكيليين وأصحاب صالات في دمشق أنباء تُفيد بتلقيهم ملاحظات فرديّة، وصفوها بـ"المهذبة"، من أعضاء في "هيئة تحرير الشام" بوجوب الابتعاد عن تصوير العري والالتزام بالحشمة في ما يعرضون من أعمالٍ فنية. لكن سرعان ما انحسرت إلى حد بعيد تلك الشكوك والهواجس لديهم حول دور السلطات الجديدة في تفعيل الرقابتين الدينية والاجتماعية، بعد حصولهم على تطمينات عامّة وخاصة من دوائر القرار.
وجرت ترجمة التطمينات بإقامة عددٍ من المعارض التشكيلية خلال الأشهر التالية لسقوط النظام البائد. وكان لافتاً اختيار مكان العرض لبعضها، حيث احتضن "المتحف الوطني في دمشق"، التابع لوزارة الثقافة، معرضاً للفنانة سارة شمّة، لتأكيد دور الدولة في رعاية الثقافة بكل أشكالها، ومنها الفنون البصرية. وبالقدر نفسه من الأهمية والدلالة، جاء اختيار "المركز الوطني للفنون البصرية" لإقامة معرض ضم 120 عملاً لـ78 فناناً وفنانة ينتمون إلى الكادر التدريسي في كلية الفنون الجميلة منذ تأسيسها عام 1960 إلى الآن، في دلالة على المواكبة والاستمرارية.
أزمة تتسع إلى مناخات تتعلق بمُعطى الثقافة وعوامل الاستقرار
كما يقام حالياً في "صالة عشتار الفنية" في دمشق معرض "وجوه من بلدي" لكل من الفنانين: أسعد فرزات المقيم في سويسرا، والمصوّر الفوتوغرافي سامي درويش القادم من فرنسا؛ وهو معرض يجمع بين الرسم والتصوير الضوئي، ويختزن قصص النزوح، ووجع الشتات والذاكرة.
وبالقرب من جسر الحرية المعروف سابقاً باسم "جسر الرئيس"، يُقام في مبنى الوردة الدمشقية، الذي كان يتبع لإحدى مؤسّسات أسماء الأسد سابقاً، معرض جماعي تحت عنوان "طريق".
تداعيات الحرب
كانت الحرب قد أصابت منذ اندلاعها قاطرة الحركة التشكيلية في سورية، فنزفت فنانين معروفين غادروها إلى المنافي، وأبطأت حركتها التي اتسمت قبل الثورة بالانتعاش، وانكمشت سوقها الداخلية والخارجية معاً، وأغلقت بعض صالاتها العريقة، كما غيّرت من مسارات تشكيليّين آخرين وتوجّهاتهم الفكرية والفنية. وساعد القدر بتعزيز خسارات مضافة، فغيّب الموت قامات فنيّة بارزة على رأسها نذير نبعة، ومروان قصاب باشا، ومحمد الوهيبي، ونذير إسماعيل، وعماد صبري، وعماد كسحوت، وآخرون.
كما غيّب الموت رموزاً بارزة في الحركة النقدية، من بينها عفيف بهنسي؛ الباحث في تاريخ الفن وعلم الجمال ومؤسّس كلية الفنون الجميلة عام 1960 وأوّل نقيب للفنون الجميلة في سورية، كذلك، غيّب كلاً من طارق الشريف مؤسّس مجلة "الحياة التشكيلية"، ومدير تحريرها لمدة 20 عاماً، وصلاح محمد، الذي يعدُّ واحداً من أبرز النقاد التشكيليين السوريين.
وأمام حرص النظام على استمرار الحركة التشكيلية، ولو في حدّها الأدنى، للإيحاء بوجود حياة طبيعية في مناطقه، مشى التشكيليون السوريون في ممرات ضيقة، ذهب فيها موالون إلى أقصى الركاكة الفنية بأدلجة أعمالهم وتبنيهم سردية النظام ورموزه، وفرَّ رماديون ومعارضون إلى فضاء اللامعنى، وربما بعبارة أخرى إلى المعنى اللامقبوض، وتحصّنوا خلف جدار سميك من التجريد، ما دفع بعض النقاد السوريين إلى توصيف الحركة التشكيلية في لحظة الحرب بالجمود والخواء، معتبرين من زاوية أوسع أنّ التشكيل السوري لم ينجح في تكوين هويته الخاصة، واستمر، قبل الحرب وأثناءها، في التأرجح بين التقليد والتصادي لمدارس وتيارات عالمية.
وفي المقابل، ذهب نقاد آخرون إلى وصف الحركة الفنية والتشكيلية في تلك الحقبة بالابتكار والتجديد على مستويات عدة، منها توظيف التقنيات الحديثة، بالإضافة إلى تنوّع الأسلوبيات الفنية، ومنهم خالد ضوا، محمد عمران، عبد الكريم مجدل بك، ورندة مداح، وغيرهم.
تاريخياً، كانت دمشق الوجهة الأبرز للتشكيليين السوريّين، فدروبها أقصر وأبوابها أوسع للانتشار والشهرة، ولعبت صالات العرض فيها دوراً محفّزاً، وقد وصل عدد الخاصة المرخصة منها إلى 31 صالة قبل اندلاع الثورة، عدا صالات العرض العامة، والمراكز الثقافية الرسمية التي دأبت على إقامة معارض فردية وجماعية، إضافة إلى المراكز الثقافية الأجنبية الملحقة بسفارات بلادها التي شكّل إغلاقها بعد عام 2011 خسارة كبيرة في المشهد الفني، فيما استمر المركز الثقافي الروسي في عمله كالمعتاد متضمناً إقامة المعارض الفنية، لكنه لم يكن جاذباً بقدر المراكز الأخرى.
وبالتدريج، على وقع الحرب والدمار وانهيار الاقتصاد السوري، أوقفت العديد من الصالات الخاصة أعمالها، ومنها صالات عريقة، ولم يصمد منها سوى القليل، وهي أقل من عدد أصابع اليدين حالياً، ومن أبرزها "صالة عشتار"، و"صالة السيد"، و"صالة جورج كامل"، و"صالة أيام"، و"صالة زوايا"، إضافة إلى "صالة ألف نون" التي جرى افتتاحها عام 2016، ما انعكس على الفنانين التشكيليين، فلا سوق محلّية لأعمالهم ولا صالات للعرض، ولا مقتنين سوريين في الداخل، ونادراً ما يجرى تسويق أعمالهم أمام مستقبل قريب لا يعد بإمكانية استعادة الفن التشكيلي عافيته.
وظهرت تجارب في دمشق خلال السنوات السابقة، عُرفت باسم "الآرت كافيه"، حيث يقوم بعض الفنانين بعرض أعمالهم في مقاه ومطاعم بديلاً عن الصالات المختصّة، لكن أزمة الفن التشكيلي السوري الناشئة باتت تتعدّى وجود مكان للعرض، وتتسع إلى مناخات تتعلق بمعطى الثقافة وعوامل الاستقرار. فعلى الرغم من وجود ثروات هائلة تكدّست في زمن الحرب بأيدي قلّة من أثريائها الذين تبدو عليهم مظاهر البذخ والترف، لكنهم وبحكم تكوينهم بصفتهم "محدثي نعمة"، لم تكن لديهم صلات بالفن التشكيلي بمعيار أبعد من كونه شكلاً من أشكال الديكور أو التزيين، لم يحدث أي فارق إيجابي في مسار حركة تشكيلية متعثرة.
غرنيكا سورية مفقودة
لم ينجز التشكيليون السوريون خلال 14 عاماً من الحرب، لوحة "غرنيكا" خاصة بهم أسوة بتلك "اللوحة الجدارية" التي رسمها بيكاسو عام 1937 بعد قصف الطائرات الألمانية النازية القرية الإسبانية التي تحمل اللوحة اسمها.
وإذا كان من السابق لأوانه القول إن فناني سورية التشكيليين سيملؤون لاحقاً هذا الفراغ الذي يخصهم في المشهد السوري، ويتركون بصمتهم الإنسانية على شكل نصب تذكارية تختزل أهوال حرب عاشوها جميعاً، فإنه من الظلم بمكان تحميلهم مسؤولية هذا الفراغ، وقد كانوا، كغيرهم من السوريين، سجناء خوف وقهر أعلى من الصرخات الخبيئة في أعمالهم الفنية، كما كانوا ضحايا خراب أكبر مما اتسعت له أعمالهم.
