عشرات نجوم الدراما السورية الذين عرفتهم الشاشة العربية على مدى عقود انطلقوا من المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، الذي تأسّس عام 1977 ورفد الدراما السورية بكثيرين من كوادرها، والتي وصلت منذ الثمانينات إلى الشاشات العربية، ولا تزال تحتل موقعا مهماً عليها، إلا أن رفده المسرح السوري والعربي لا يزال قاصراً نتيجة عوامل عدة.
تجوّل ملحق "سورية الجديدة" في أروقة المعهد، بأقسامه: التمثيل، السينوغرافيا، الدراسات المسرحية، الرقص، الفنون الصوتية والضوئية. تعرّفنا قدر الممكن إلى أبرز المشكلات التي تواجهه، ومخاوف كوادره وطلابه بعد تحرير البلاد، وقد بدأت تتبدّد شيئا فشيئا، سيما أن المعهد استأنف نشاطه ودروسه بعد سقوط نظام الأسد بيوم، ولا يزال مستمرّاً كما المعتاد، وقد زار "سورية الجديد" المعهد في وقت يتهيأ الطلّاب لتقديم امتحانات العام الحالي.
كان من أول الاستفهامات، وأكثرها إلحاحاً، ما يتعلق باسم المعهد المفترض أن يخرّج ممثلين مسرحيين، لا سيما من قسم التمثيل، لكن الغالبية العظمى من الخرّيجين ما إن ينفذوا خارج بوابة المعهد حتى يقصدوا طريق الدراما. غير أن الطالب أحمد الدرويش صنّف المسرح أنه وُجد ليكون من أدوات الترفيه للشعوب، وفي ظل الوضع الحالي لسورية، حاجات الشعب كثيرة حتى يصل إلى طلب الترفيه. ونوّه إلى أن الوصول إلى مسرح يقصده الناس سيجعل الممثل مهتمّاً بتقديم مسرح حقيقي وعدم وضع الذهاب إلى الدراما أولوية لتامين مردوده للعيش.
يقف أحمد على الخشبة إلى جانب زملائه في دفعة التخرّج للعام الدراسي الحالي، لوضع اللمسات الأخيرة على العرض النهائي الخاص بالتخرّج، وكلهم أمل بمستقبل أفضل بعيداً عن سلطة الرقيب بعد سقوط النظام الذي كان يفرض رقابة صارمة على كل النصوص الفنية في المسرح والدراما، فيما عبّر أحمد عن ارتياح للوضع الجديد في البلاد مع السلطة الحالية، وقال: "كانت هناك قيود، ملموسة وغير ملموسة في السابق، لكننا اليوم نشعر بالحرية في التعبير، هناك فسحة أمل كبيرة، جعلتنا نغير أنا ومعظم زملائي من وضع السفر أولوية بعد التخرج، إلى بناء الأحلام على أساس صناعة فن حقيقي في البلاد، لكن ما ينقصنا مزيد من الاهتمام".
يريد أحمد أن يبعد رؤيته إلى المستقبل عن التنميط الذي يطاول السلطات الحالية، القادمة من خلفياتٍ محافظة بمعظمها، موضحاً أن الانفتاح الذي أبدته في كل المجالات وليس الفن فقط، يترجم على أرض الواقع، عن قناعة أو من دونها، حسب تعبيره، إلا أن ما يهم الفنانين، والسوريين في العموم، ما يلمسونه في حياتهم اليومية، وقال: "هم يقومون بخطوات إيجابية، تجعلني أتفاءل بمستقبل أفضل".
يدخل الطلاب إلى المعهد في التاسعة صباحا، وقد تستمر دروسهم النظرية والعملية حتى التاسعة ليلا، ما يجعل الارتباط وثيقاً بين الطلاب والأساتذة مع المكان، لكن ذلك لا يخلو من منغّصات، فالبنية التحتية للمعهد بدت مستهلكة بشكل كبير، علاوة على أن الوضع الاقتصادي والمادي يرخي بظله على المدرسين والطلاب، فلدى معظم الطلاب الذين تحدثنا إليهم همّ تأمين أجور التنقل والمواصلات من المعهد وإليه، أما المدرّسون، فيكفي القول إن أكبر مرتب لمدرس لا يتجاوز عتبة 40 دولاراً شهرياً.
بدا هامش الحرية ملحوظاً داخل المعهد، مع اختيار نصوص لكتاب سوريين، منعت أعمالهم في عهد النظام المخلوع
على ذلك، تحسين وضع المدرسين والطلاب على حد سواء حاجةٌ ملحّةٌ وليس كمالية، بحسب الأستاذ المشرف على دفعة التخرج في قسم التمثيل في المعهد، يزن الدهوك، الذي يختلف مع الطالب أحمد الدرويش بأن المسرح ليس رفاهية، بل هو حاجة، لكن "ابتلاع سوق الدراما الخرّيجين والممثلين بالعموم لا ينبع من رغبة بذلك، وإنما من أن العمل للمسرح لا يجعل الممثل يعيش حياة كريمة من النهاية المادية"، معبّراً عن أسفه لهذه الحقيقة.
أبدى الداهوك تفاؤله بالطلاب الـ 16 الذين سيتخرّجون من قسم التمثيل لهذا العام، معتقداً أن مستقبلهم الفني سيكون واعداً في حال توفرت لهم الظروف الملائمة لصناعة فن حقيقي، ولم يبد الداهوك أي مخاوف أو تفاؤل بشأن مستقبل الفن في ظل السلطة الحالية، سيما فيما يخص التعامل مع المعهد، قائلا: "لم يكن هناك اختبار حقيقي مع السلطة يخصّ هذا المكان بالتحديد، لكن ما نتمنّاه منهم الاهتمام وإعطاؤنا هامش الاستقلالية الذي يتطلبه الفن وصناعته".
بدا هامش الحرية ملحوظاً داخل المعهد، سيّما مع حضورنا محاضرة الإلقاء المسرحي لأستاذة المادة، ندى العبد الله، حيث بدأت باختيار نصوص لكتاب سوريين، منعت أعمالهم في عهد النظام المخلوع، أو تعرّضوا للتهميش والإهمال بسبب مواقفهم المعارضة، كأعمال إبراهيم صموئيل وخالد خليفة وغيرهما. وقد زار وزير الثقافة محمد صالح المعهد، إلا أن العبد الله ولكن لقاء عمل حقيقي معه أو مع الوزارة لوضع خطط وآليات للعمل لم يحدُث، منوهة إلى أن الإدارة الحالية للبلاد، وفيما يخص التعاطي مع الفنون أبدت اهتماما بالدراما وإنتاجها، لكنها قالت: "يبدو أن المسرح خارج اهتماماتهم، ويجب معالجة هذا الجانب". وعبرت ندى العبد لله عن مخاوف مشروعة تخصّ النواحي الأمنية، سيما مع قلاقل تتكرّر بين فينة وأخرى، كذلك كرّرت شكاوى الأساتذة والطلاب من قلة الدعم اللوجستي والهيكلي للمعهد وكوادره، منوّهة إلى أن "تحسين أداء المعهد وزيادة فاعليته يحتاج الكثير".
معظم طلاب قسم الرقص في المعهد من الإناث، هذا ما يجعل المخاوف في حضور المرأة داخل هذا الحقل الفني في ظل العهد الجديد مشروعة، لكن الطالبة في السنة الثالثة في القسم، دانة أبو حسّون، نوّهت إلى أن المؤشّرات لتعاطي الحكومة مع الفنون تسير نحو الإيجابية، متوقّعة أن ينسحب ذلك على فن الرقص وتعليمه في المعهد. وقالت أبو حسون إن النظرة غير الراضية عن فن الرقص في المجتمع السوري غير مرتبطة بسلطة أو حكومة، وإنما هناك شريحة واسعة من المجتمع تنمّط هذا الفن في قوالب مختلفة، أقله أنه ليس حاجة ولا نفع من وجوده، بحسبها، ولكنها أشارت إلى أن هناك دعم من المهتمين بهذا الفن، وأضافت "في أي هواية أو فن أو أي عمل تقوم به، هناك من يتقبل وهناك من يرفض، وهذا طبيعي، المهم أن نستمر نحن من دون يوضع أمامنا عوائق".
كان ختام الجولة في المعهد في مكتب عميد المعهد بالوكالة والأستاذ في قسم الفنون الصوتية والضوئية، عمّار الحامض، الذي تحدّث عن تحدّيات واحتياجات كثيرة يجب أن تتوفر للمعهد في أقرب وقت، وقال: "أنشئ المعهد منذ نحو 50 عاماً، من دون أنْ يُضاف له أي شيء يدعم بنيته التحتية. ورغم أنه بدأ بقسمين، فإنه اليوم يضم خمسة أقسام. الاستديوهات والمسارح لدينا مستهلكة نتيجة التدريب المتواصل، والمعدّات لدينا بأقل إمكاناتها. وباختصار، البنية التحتية لدينا مهترئة، ونحن بحاجة إلى سرعةٍ في ترميم ذلك نظراً إلى حاجته".
الحامض: "يجب تحسين دخل المدرسين وأجورهم، فمدرس المعهد يتقاضى مبلغ 30 إلى 40 دولارا شهريا".
يعرف المعهد العالي للفنون المسرحية، منذ تأسيسه، بصرامته في عملية قبول الطلاب، لا سيما في قسم التمثيل، حيث يتقدم كل عام لهذا القسم مثلا، حوالي 800 إلى ألف طالب وربما أكثر، سيقبل منهم ما بين 12 إلى 16 أو 17 بالحد الأعلى. وبشأن إمكانية فتح المجال بشكل أكبر أمام الموهوبين للدراسة في المعهد، قال الحامض: "أولاً، نحتاج المكان الواسع، والمجهز تجهيزاً لائقاً يناسب استيعاب عدد أكبر من الطلاب، وهذا غير كاف إن لم تتوفر الكوادر والخبرات التدريسية، مثلا اليوم معظم الأساتذة لدينا من الخرّيجين. كما أن لدى المدرّسين القدامى في المعهد انقطاع كبير عن الخارج والبعثات التي تطوّر من أداء المدرّس، ولكي نستطيع أن نطلب من الخبرات والكفاءات السورية في الخارج والداخل الانضمام لأسرة المعهد والتدريس داخله، يجب تحسين دخل المدرّسين وأجورهم، فلا يعقل أن مدرّساً في المعهد الذي يُصدر واحدة من أهم الواجهات الثقافية في البلد، أن يتقاضى مبلغ 30 إلى 40 دولاراً شهرياً".
وقال الحامض إن كل هذا المطالب موضوعة أمام وزارة الثقافة. ونوّه إلى وعود بتحقيق ما يمكن لتحسين وضع المعهد للأفضل، أما بخصوص المخاوف التي كانت حاضرة ولا تزال، فقال: "لا ننكر أنه كانت في بداية التحرير مخاوف من إغلاق المعهد، ثم بعد شهر أو شهرين تضاءلت هذه المخاوف إلى توقع بإيقاف قسم الرقص. وبعد مضي أكثر من ستة أشهر، نجد أن الأمور تسير جيداً، فلم نتعرّض لمضايقات أو حتى تدخل في عملنا، على العكس نلقى تشجيعا من الوزارة، وزارنا الوزير وسنحدد لقاء عمل معه، بالتالي نحن نسير كما المعتاد ولدينا نتاج نحافظ عليه".